1- مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح الملا علي القاري
( 1 )
نبذة عن الكتاب
المصابيح للبغوي جمع الأحاديث مجردة من الأسانيد، فذكر الخطيب التبريزي الصحابي الراوي وخرج الأحاديث وزاد باباً ثالثاً على الكتاب وسماه " مشكاة المصابيح " وشرحه نحو 9 علماء منهم القاري في كتابنا هذا وهو فقيه حنفي يذكر تراجم الصحابة الرواة، والفوائد اللغوية والفقهية والحديثية وفي السلوك. وطبع معه الإكمال في تراجم رجال المشكاة للتبريزي.
www.almeshkat.net/books/ index.php
بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين
مقدمة المؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي فتح قلوب العلماء بمفاتيح الإيمان وشرح صدور العرفاء بمصابيح الإيقان وأفضل الصلوات وأكمل التحيات على صدر الموجودات وبدر المخلوقات أحمد العالمين وأمجد العالمين محمد المحمود في أقواله وأفعاله وأحواله المنور مشكاة صدره بأنوار جماله وأسرار كماله وعلى آله وأصحابه حملة علومه ونقلة آدابه ما بعد فيقول أفقر عباد الله الغني الباري علي بن سلطان محمد الهروي القاري عاملها الله بلطفه الخقي وتجاوز عنهما بكرمه الوفي لما كان كتاب مشكاة المصابيح الذي ألفه مولانا الحبر العلامة والبحر الفهامه مظهر الحقائق وموضح الدقائق الشيخ التقي النقي ولي الدين محمد بن عبد الله الخطيب التبريزي أجمع كتاب في الأحاديث النبوية وأنفع لباب من الأسرار المصطفوية ولله در من قال من أرباب الحال لئن كان في المشكاة يوضع مصباح فذلك مشكاة وفيها مصابيح وفيها من الأنوار ما شاع نفعها لهذا على كتب الأنام تراجيح فيه أصول الدين والفقه والهدى حوائج أهل الصدق منه مناجيح مشايخ المؤلف تعلق الخاطر الفاتر بقراءته وتصحيح لفظه وروايته والاهتمام ببعض معانيه ودرايته رجاء أن أكون عاملا بما فيه من العلوم في الدنيا وداخلا في زمرة العلماء العاملين في العقبى فقرأت هذا الكتاب المعظم على مشايخ الحرم المحترم نفعنا الله بهم وببركات علومهم منهم فريد عصره ووحيد دهره مولانا العلامة الشيخ عطية السلمي تلميذ شيخ الإسلام ومرشد الأنام مولانا الشيخ أبي الحسن البكري ومنهم زبدة الفضلاء وعمدة العلماء مولانا السيد زكريا تلميذ العالم الرباني مولانا إسماعيل الشرواني من أصحاب قطب العارفين وغوث السالكين خواجه عبيد الله السمرقندي أحد أتباع خواجه بهاء الدين النقشبندي روح
الله روحهما ورزقنا فتوحهما ومنهم العالم العامل والفاضل الكامل العارف بالله الولي مولانا الشيخ علي المتقي أفاض الله علينا من مدده العلي النسخ التي أعتمدها لكن لكون هؤلاء الأكابر غير حفاظ للحديث الشريف ولم يكن في أيديهم أصل صحيح يعتمد عليه العبد الضعيف والشراح ما اعتنوا إلا بضبط بعض الكلمات وكانت البقية عندهم من الواضحات ما أطمأن قلبي ولا انشرح صدري إلا بأن جمعت النسخ المصححة المقروءة المسموعة المصرحة التي تصلح للاعتماد وتصح عند الاختلاف للاستناد فمنها نسخة هي أصل السيد أصيل الدين والسيد جمال الدين ونجله السعيد مير كشاه المحدثنين المشهورين ومنها نسخة قرئت على شيخ مشايخنا في القراءة والحديث النبوي مولانا الشيخ شمس الدين محمد بن الجزري ومنها نسخة قرئت على شيخ الإسلام الهروي وغيرها من النسخ المعتمدة الصحيحة التي وجدت عليها آثار الصحة الصريحة فأخذت من مجموع النسخ أصلا أصيلا ولمثوبة الألإخروية كفيلا اجازته وقد حصل لي أجازة عامة ورخصة تامة من الشيخ العلامة علي بن أحمد الجناني الأزهري الشافعي الأشعري الأنصاري وقد قال قرأت على شيخ الإسلام وإمام أئمة الأعلام الشيخ جلال الدين السيوطي كتبا من الحديث وغيره من العلوم كالبخاري ومسلم وغيرهما من الكتب الستة وغيرها البعض قراءة والبعض سماعا وقد أجازني بجميع مروياته وبما قرئ به و بما أجازه به خاتمة المحدثين مولانا الشيخ ابن حجر العسقلاني قراءة وسماعا ورواية وإجازة وعلى الشيخ القسطلاني صاحب المواهب وشارح البخاري من أجلاء تلامذه العسقلاني وأجازني بمروياته ومؤلفاته وهذا على ما يوجد من السند المعتمد في هذا الزمان المكدر المنكد ثم إني قرأت أيضا بعض أحاديث المشكاة على منبع بحر العرفان مولانا الشهير بمير كيلان وهو قرأ على رند المحققين وعمدة المدققين مير كشاه وهو على والده السيد السند مولانا جمال الدين المحدث صاحب روضة الأحباب وهو على عمه السيد أصيل الدين الشيرازي روي أنه أدرك من أكابر العلماء أحدا وثمانين منهم مولانا الشيخ محمد بن محمد بن محمد الجزري والشيخ مجد الدين الفيروزآبادي صاحب
القاموس والعلامة السيد الشريف الجرجاني وسمع منه مولانا نور الدين عبد الرحمن الجامي قدس الله سره السامي وغيره توفي سنة أربع وثمانين وثمانمائة قال أروي كتاب المشكاة عن مولانا شرف الدين الجرمي وهو يروي عن خواجه إمام الملة والدين علي بن مباركشاه الصديقي وهو يروي عن المؤلف وهذا الإسناد لا يوجد أعلى منه للاعتماد الباعث لتأليف المرقاة فلما حصلت هذه النسخة المذكورة وصححتها من النسخ المعتمدة المسطورة رأيت أن أضبطها تحت شرح لطيف على منهج شريف يضبط ألفاظه مع مبانيه ويبحث عن رواياته ومعانيه فإن همم إخوان الزمان قد قصرت ومجاهدتهم في تحصيل العلوم لا سيما في هذا الفن الشريف ضعيفت وهو متقضى الوقت الذي تجاوز عن الألف وبقي ضعف العلم والعمل بل ضعف الإيملان على ضعف والله ولي دينه وناصر نبيه وهو بكل جميل كفيل وحسبنا الله ونعم الوكيل وأيضا من البواعث أن غالب الشراح كانوا شافعية في مطلبهم وذكروا المسائل المتعلقة بالكتاب على منهاج مذهبهم واستدلوا بظواهر الأحاديث على مقتضى مشربهم وسموا الحنفية أصحاب الرأي على ظن أنهم ما يعملون بالحديث بل ولا يعلمون الرواية والتحديث لا في القديم ولا في الحديث مع أن مذهبهم القوى تقديم الحديث الضعيف على القياس المجرد الذي يحتمل التزييف نعم من رأي ثاقبهم الذي هو معظم مناقبهم أنهم ما تشبتوا بالظراهر بل دققوا النظر فيها بالبحث عن السرائر وكشفوا عن وجوه المسائل نقاب الستائر ولذا قال الإمام الشافعي الخلق كلهم عيال على أبي حنيفة في الفقه وهذا الاعتراف يدل على الاغتراف وكمال الانصاف منه رضي الله تعالى عنهما ونفعنا بعلومهما ومددهما فأحببت أن أذكر أدلتهم وأبين مسائلهم وأدفع عنهم مخالفتهم لئلا يتوهم العوام الذين ليس لهم معرفة بالأدلة الفقهية أن المسائل الحنفية تخالف الدلائل الحنيفية وسميته مرقاة المفاتيح لمشكاة المصابيح والله نعالى أسأل أن يجعله خالصا لوجهه من فضله وأن ينفع المسلمين به كما ينفعهم بأصله وفصله فأقول وبالله التوفيق وبيده أزمو التحقيق قال الشيخ رحمه الله
توجد صفحة فارغة
بسم الله الرحمن الرحيم خطبة الكتاب اقتداء بالقرآن العظيم وتخلقا بأخلاق العزيز العليم واقتفاء للنبي الكريم حيث قال كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بسم الله الرحمن الرحيم فهو أبتر أي قليل البركة أو معدومها وقيل إنه من البتر وهو القطع قبل التمام والكمال والمراد بذي البال ذو الشأن في الحال أو المآل رواه الخطيب بهذا اللفظ في كتاب الجامع واختلف السلف الأبرار في كتابة البسملة في أول كتب الأشعار فمنعه الشعبي والزهري وأجازه سعيد بن المسيب واختاره الخطيب البغدادي والأحسن التفصيل بل هو الصحيح فإن الشعر حسنة حسن وقبيحة قبيح فيصان إيراد البسملة في الهجريات والهذيان ومدائح الظلمة ونحوها كما تصان في حال أكل الحرام وشر الخمر ومواضع القاذورات وحاله المجامعة وأمثالها والأظهر انه لا يكتب في أول كتب المنطق على القول بتحريم مسائلها وكذا في القصص الكاذبة بجمخيع أنواعها والكل مستفاد من قوله ذي بال والله أعلم بحقيقة الحال ثم إنه ورد الحديث بلفظ كل كلام ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم رواه أبو داود والنسائي في عمل اليوم والليلة وبلفظ كل أمر ذي بال لا يبدا فيه بالحمد لله فهو أقطع رواه ابن ماجه والتوفيق بينهما أن المراد منهما الابتداء بذكر الله سواء يكون في ضمن البسملة أو الحمدلة بدليل أنه جاء في حديث رواه الرهاوي في أربعينه وحسنه ابن الصلاح ولفظه كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بذكر الله سواء حديث ابن الصلاح ولفظه كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بذكر الله فهو أقطع أو يحمل حديث البسملة على الابتداء الحقيقي بحيث لا يسبقه شيء وحديث الحمدلة على الابتداء الإضافي وهو ما بعد البسملة قيل ولم يعكس لأن حديث البسملة أقوى في المنهال بكتاب الله الوارد على هذا المنوال ويخطر بالبال والله أعلم بالحال أن توفيق الافتتاح بالبسملة لما كان من النعم الجزيلة ناسب أن تكون الحمدلة متأخرة عنها لتكون متضمنة للشكر على هذه
المنحة الجميلة هذا وقد يقال إن المراد بالابتداء افتاح عرفي موسع ممدود يطلق على ما قبل الشروع في المقصود كما يقال أول الليل وأول النهار وأول الوقت وأول الديار وحنيئذ لا يرد على المصنف أنه جاء في رواية كل أمر ذي بال لم يبدا فيه بذكر الله ثم بالصلاة علي فهو أقطع ممحوق من كل بركة أخرجه الرهاوي عن أبي هريرة مرفوعا وإن قيل بضعفه وجاء في رواية الترمذي وحسنه عن أبي هريرة مرفوعا كل خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذماء على رواية ضم الخاء وهو الظاهر من صنيع الترمذي حيث أورده في باب خطبة النكاح وكذا يفهم من اعتراض الشيخ ابن حجر العسقلان على البخاري في تركه الشهادة أول كتابه مع أنه قد يجاب عنه بعدم صحة الحديث عنده أو بأن روايته كسر الخاء لا ضمه والله أعلم ثم الباء جاء لأربعة عشر معنى والمناسب ههنا منها الإلصاق والاستعانة وهي متعلقة بمقدر وأخر على المختار تحقيقا لحقيقة الابتداء وتعظيما للاسم الخاص عن الانتهاء وإقادة للاهتمام وإرادة لمقام الاختصاص الذي هو المرام ورد لدأب المشركين حيث كانوا يبتدئون بالأصنام ويفتتحون بذكر الله في بعض الكلام لكن قال العارف الجامي حقيقة الابتداء باسمه سبحانه عند العارفين أن لا يذكر باللسان ولا يخطر بالجنان في الابتداء غير اسمه سبحانه ولا اثباتا ولا نفيا فإن صورة نفي الغير ملاحظة للغير فهو أيضا ملحوظ في الابتداء فلس الابتداء مختصا باسمه سبحانه فلا حاجة إلى تقدير المحذوف مؤخرا إلا ان يكون اسم الله سبحانه في التقدير أيضا مقدما كما أنه في الذكر مقدم ه والمعنى باسم الله ابدا تصنيفي أو ابتدائي في جميع أموري متبركا باسمه ومستعينا برسمه والاسم من الأسماء التي بنى أوائلها على السكون فعند الابتداء بها يزيدون همزة الوصل والأصح أنه من الأسماء المحذوفة العجز كيد ودم بدليل تصاريفه من سميت ونحوه واشتقاقه بهمزة من السمو وهو العلو لأن التسمية تنويه بالمسمى ورفع لقدره وعند الكوفية أصله وسم وهو العلامة لأنه علامة دالة على المسمى فحذف حرف العلة تخفيفا ثم أدخلت عليه همزة الوصل وسقطت كتابتها في البسملة المختصة بالجلالة على خلاف رسم الخط لكثرة الاستعمال الكتبي وطولت الباء دلالة عليها قبل ذكر الاسم فرقا بين اليمين والتيمن وقيل الاسم صلة وهو إن أريد به اللفظ فلا يصح القول بأنه عين المسمى وإن أريد به ذات الحق الوجود المطلق إذا اعتبر مع صفة معينة كالرحمن مثلا هو الذات الإلهية مع صفة الرحمة والقهار مع صفة القهر فهو عين المسمى بحسب التحقيق والوجود وإن كان غيره بحسب التعقل والأسماء الملفوظة هي أسماء هذه الأسماء والإضافة لامية والمراد بعض
أفراده التي من جملتها الله والرحمن والرحيم أو يراد به هذه الأسماء بخصوصها بقرينة التصريح بها ويمكن أن تكون الإضافة بيانية بناء على ما تقدم هكذا قاله بعض المحققين واعلم أن هذه المسألة قد اختلف على مذاهب أحدهما أن الاسم عين المسمى والتمسية وثانيهما وهو المنقول عن الجهمية والكرامية والمعتزلة غيرهما قال العلامة العز ابن جماعة هو الحق وثالثها عين المسمى وغير التسمية وهو المصحح عند بعض الحنفية وهو المراد بقول القائل وليس الاسم غيرا للمسمى ورابعها لا عين ولا غير والثالث هو المنقول عن الأشعري لكن في اسم الله تعالى أعنى كلمة الجلالة خاصة لأن مدلول هذا الاسم الذات من حيث هي بخلاف غيره كالعالم فمدلوله الذات باعتبار الصفة وقد نبه الإمام الرازي والآمدي على أنه لا يظهر في هذه المسألة ما يصلح محلا لنزاع العلماء والله أعلم وفي التعرف أجمعوا أن الصفات ليست هي هو ولا غيره وأجمعوا أنها لا تتغاير وليس علمه قدرته ولا غير قدرته ولا قدرته علمه ولا غير علمه وكذلك جميع صفاته من السمع والبصر وغيرهما واختلفوا في الأسماء فقال بعضهم أسماء الله تعالى ليست هي الله ولا غير الله كما قالوا في الصفات وقال بعضهم أسماء الله هي الله والله أعلم ثم اعلم أنه تحير العلماء في تدقيق اسم الله كما تحير العرفاء في تحقيق مسماه سبحان من تحير في ذاته سواه فقيل إنه عبري لأن أهل الكتاب كانوا يقولون الاها فحذفت العرب الألف الأخيرة للتخفيف كما فعلوا في النور والروح واليوم فإنها في اللغة العبرانية كانت نورا وروحا ويوما وهذا وجه من قال إنه معرب والحق أنه عربي لأن ما ذكروه من توافق اللغتين لا يدل على كون إحداهما متأخرة عن الأخرى مأخوذة عنها ثم اختلفوا أسم هو أم صفة مشتق وعليه الأكثر أو غير مشتق علم أو غير علم وما أصله على تقدير اشتقاقه ومختار صاحب الكشاف أنه كان في الأصل اسم جنس ثم صار علما وأن أصله الإله وإنه مشتق من إله بمعنى تحير فالله متحير فيه لأنهم لا يحيطون به علما وحكى سيبويه والمبرد عن الخليل أن الله اسم خاص علم لله غير مشتق من شيء وليس بصفة فعلى هذا يكون جامعا لأسمائه ونعوته وصفاته وقيل إنه مأخوذ من الهت إلى فلان إذا فزمعت إليه عند الشدائد قال ألهت إليكم في بلايا تنوبني فألفيتكم فيها كريما ممجدا فإن الخلق يفزعون إليه عند الشدائد أو من أله الفضيل إذا ولع بأمه لأن العباد يولهون به وبذكره وقيل من تألهت أي تضرعت فالإله هو الذي يتضرع إليه وقيل من قولهم لاه يلوه لوها ولاها إذا احتجب وارتفع قال لاه ربي عن الخلائق طرا فهو الله لا يرى ويرى هو
وقيل من ألهت بالمكان إذا قمت به ومعناه الذي لا يتغير عن صفته كما أن المقيم لا يتحول عن بقعته ومنه قول الشاعر لهنا بدار لا تبين رسومها كأن بقاياها وشام على الأيدي وقيل الإله أصله ولاه فهو من الوله كما قيل في اسادة واشاح واجوه وسادة ووشاحد ووجوه ومعناه أن العباد يولهون عند ذكر الإله أي يطربون منه ومنه قول الكميت ولهت نفسن الطروب إليكم ولها حال دون طعم الطعام وقيل الوله المحبة الشديدة وقيل مشتق من إله بمعنى عبد فالإله فعال بمعنى المعبود كالكتاب بمعنى المكتوب ويدل عليه قراءة ابن عباس ويذرك والاهتك أي عبادتك ثم قال سيبويه الأصل في قولنا الله إله فما حذفت همزته عوضت في أوله الألف واللام عوضا لازما فقيل الله وقال المبرد الأصل في لاه لوه على وزن دور فقلبوا الواو ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها فصار لاه على وزن دار ثم أدخلوا عليه لام التعريف وقال أبو الهيثم الرازي الأصل في الله هو الإله خففت الهمزة بإلفاء حركتها على اللام الساكنة قبلها وحفت فصارت اللاه ثم أجريت الحركة العارضة مجرى الأصلية وأدغمت اللام الأولى في الثانية قيل ههنا إشكال صرفي وهو أنه إن نقلت حركة الهمزة إلى ما قبلها أولا على ما هو القياس ثم حذفت فيلزم أن يكون وجوب الإدغام غير قياسي لما تقر في محله من أن المثلين المتحركين لا يجب فيهما الإذغام إ ذا كانا من كلمتين نحو ما سلككم ومناسككم وإن حذفت الهمزة مع حركتها فيلزم مخالفة القياس في تخيفيها وإن كان لزوم الإدغام على القياس ومن ثم قيل هذا الاسم خارج عن متقضى القياس في تخفيفها وإن كان لزوم الإدغام على القياس ومن ثم قيل ها الاسم خارج عن متقضى القياس كما أن مسماه خارج عن دائرة قياس الناس وأجبيب باختيار الأول ومنع كون الإدغام في كلمتين بأنه لما جعل اللام عوضا عن الهمزة وصار بمنزلتها صار كأنه في كلمة واحدة على أنه يجوز أن يكون وجوب الإدغام بعد العلمية فيكون الاجتماع في كلمة واحدة قطعا قلت التحقيق أنه كما أن النقل فيه قياس غير مطرد فكذلك الإدغام في كلمتين ويكفي جوازه ولا يحتاج إلى وجوبه مع أن الإذغام في كلمتين اتفق عليه القراء في قوله لا تأمنا يوسف والحق أنه نظير قوله تعالى لكنا هو الله ربي الكهف فإن الأصل لكن أنا فحولوا الفتحة إلى ما قبلها من النون فاجتمعت نونان متحركتان فأسكنوا الأولى وأدغموها في الثانية وهذا القول محكي عن الفراء وقيل الأصل فيه هاء الكناية عن الغائب وذلك أنهم أثبتوا موجوجا في نظر عقولهم وأشاروا إليه بحرف الكناية ثم زادوا فيه لام الملك لما علموا أنه خالق الأشياء ومالكها فصار له ثم قصروا الهاء وأشبعوا فتحة اللام فصار لاه وخرج عن معنى الإضافة إلى الاسم المفرد فزيدت فيه الألف واللام للتعريف تعطيما وفخموه تأكيدا لهذا المعنى فصار الله كما ترى وهذا أقرب
بإشارات الصوفية من تحقيق اللغة العربي وقيل ليس هو بمشتق بل هو علم ابتداء لذاته المخصوصة من غير ملاحظة معنى من المعاني المذكورة ويلائم هذا المذهب ما ذكره بعض العارفين من أنه اسم للذات الإلهية من حيث هي على الإطلاق لا باعتبار اتصافها بالصفات ولا باعتبار لا اتصافها بها ولذا قال الجمهور إنه الاسم الأعظم قال القطب الرباني الشيخ عبد القادر الجيلاني الاسم الأعظم هو الله لكن بشرط أن تقول الله وليس في قلبك سواه وقد خص هذا الاسم بخواص لا توجد في غيره كما ذكره أهل العربية منها أنه تنسب سائر الأسماء إليه ولا ينسب هو إلى شيء منها ومنها أنه لم يسم به أحد من الخلق بخلاف سائر الأسماء ومنها أنهم ألزموه الألف اللام عوضا لازما عن همزته ولم يفعل ذلك في غيره ومنها أنهم قالوا يا الله فقطعوا همزته ومنها أنهم جمعوا بين يا التي للنداء وبين الألف واللام ولم يفعل ذلك في غيره حال سعة الكلام ومنها تخصيصهم إياه في القسم بإدخال التاء وأيمن وأيم في قولهم تالله وأيمن الله وأيم الله ومنها تفتخيم لامه إذا انفتح ما قبله أو انضم سنة ورثتها العرب كابرا عن كابر وتواتر نقل عن القراء عن رسول اله صلى الله عليه وسلم وحذف ألفه لحن تفسد به الصلاة و الرحمن فعلان من رحم كغضبان من غضب على أنه صفة مشبهة بجعل الفعل المتعدي لازما فينقل إلى فعل العين فيشتق منه الصفة المشبهة وأما الرحيم فإن جعل صيغة مبالغة كما نص عليه سيبويه في قولهم هو رحيم فلا إشكال وإن جعل من الصفات المشبهة كما يشعر به كلام الكشاف فالوجه ما ذكر في الرحمن ثم في الرحمن زيادة مبالغة من الرحيم لأن زيادة المبني تدل على زيادة المعنى وهي إما بحسب شموله للدارين واختصاص الرحيم بالدنيا كما وقع في بعض الآثار يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيم الدنيا وإما بحسب كثرة أفراد المرحومين وقلتها كما ورد يا رحمن الدنيا ورحيم الأخرة وإما بحسب جلالة النعم ودقتها وبالجملة ففي الرحمن مبالغة في معنى رحمن الدنيا والآخرة ورحميهما لجواز حملهما على الجلائل والدقائق وقيل رحمة الرحمن تتعلق بالمؤمن والكافر في الدنيا ورحمة الرحيم تختص بالمؤمنين في العقبى ولا يجوز إطلاق الرحمن على غيره تعالى بخلاف الرحيم قال تعالى لقد جاءكم رسول الله من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم التوبة ولذا قيل الرحمن
خاص اللفظ عام المعنى والرحيم عام اللفظ خاص المعنى ثم الرحمة في اللغة رقة القلب وانعطاف يقتضي التفضل والإحسان وهي من الكيفيات التابعة للمزاج والله سبحانه منزه عنها فإطلاقها عليه سبحانه إنما هو باعتبار الغايات التي هي أفعال دون المبادئ التي هي من الانفعالات فهي عبارة عن الإنعام فتكون من صفات الأفعال أو عن إرادة الإحسان فتكون من صفات الذات فإن كل واحد منها مسبب عن رقة القلب والانعطاق فتكون مجازا مرسلا من باب إطلاق السبب على المسبب وقدم الرحمن على الرحيم مع أن القسا الترقي في الصفات من الأدنى إلى الأعلى بناء على الرحيم كالتتمة والرديف للرحمن أو لزيادة شبهه بالله حيث اختص به سبحانه حتى قيل إنه علم له أو لتقدم رحمة الدنيا وفي الاكتفاء بهاتين الصفتين من صفات الجمخال وعدم ذكر صفة من صفات الجلال إشعار بقوله تعالى في الحديث القدسي غلبت رحمتي غضبي وفي الختم بالرحيم إيماء بحسن خاتمة المؤمنين وأن العاقبة للمتقين بعد حصول رحمته لعموم الخلق أجمعين الحمد لله قيل الحمد والمدج والشكر ألفاظ مترادفة والمحققون بينها يفرقون ويقولون إن الحمد هو الثناء باللسان على الجميل الاخيتاري من نعمة وغيرها والمدح يعم الاختياري وغيره ولذا يقال مدحته على حسنة ولا يقال حمدته عليه والشكر فعل ينبئ عن تعظيم المنعم بمقابلة النعمة سواء يكون باللسان أو الجنان والأركان فمورد الحمد خالص ومتعلقة عام والشكر بخلافة وحقيقة الشكر ما روي عن الجنيد أنه صرف العبد جميع ما أنعم الله به عليه إلى ما خلق لأجله ورفعه بالابتداء وخبره لله وأصله النصب وقرئ به وإنما عدل به إلى الرفع دلالة على الدوام والثبات وقرئ بإتباع الدال اللام وبالعكس تنزيلا لهما لكثرة استعمالها معا منزلة كلمة واحدة ثم الجملة خبرية لفظا انشائية معنى قائلها بها حامدا ولو كانت خبرية معنى لم يسم إلا مخبرا ومعلوم أنه لا يشتق للمخبر اسم فاعل من ذلك الشيء إذ لا يقال لمن قال الضرب مؤلم ضارب فإن قيل جاز أن يعد الشرع المخبر يثبوت الحمد له تعالى حامدا أجبيب بأنه خلاف الأصل والأصل عدمه واللام للاستغراق أي كل حمد صدر من كل حامد فهو ثابت الله أو للجنس ويستفاد العموم من لام الاختصاص وعلى التقديرين فجميع أفراد الحمد مختص له تعالى حقيقة وإن كان قد يوجد بعضها لغيره صورة أو الحمد مصدر بمعنى الفاعل أو المفعول أي الحامدية والمحمودية ثابتان له تعالى فهو الحامد وهو المحمود أو للعهد فإن حمده لائق له ولذا أظهر العجز أحمد الخلق عن حمده وقال لا أحصي ثناء عليك انت كما أثنيت على نفسك نحمده استئناف فأولا أثبت الحمد له بالجملة الاسمية
الدالة على الثبوت والدوام سواء حمد أو لم يحمد فهو إخبار متضمن للإنشاء وثانيا أخبر عن حمده وحمد غيره معه بالجملة الفعلية التي للتجدد والحدوث بحسب تجدد النعماء وتعدد الآلاء وحدوثها في الآناء أو المراد نشكره إما مطلقا أو على توفيق الحمد سابقا ونسعينه أي في الحمد وغيره من الأمور الدنيوية أو الأخروية فيكون تبريا من الحول والقوة النفسية وفيه إشارة إلى رد القدرية كما أن فيما ردا على الجبرية ولم يقل وإياه نستعين لأن مقام الاختصاص لا يدركه إلا الخواص ولذا قال ابن دينار لولا وجوب قراءة الفاتحة لما قرأتها لعدم صدقي فيها ويستغفره أي من السيئات والتقصيرات ولو في الحمد والاستعانة وسائر العبادات ونعود بالله أي نلتجئ ونعتضم بعونه وحفظه من شرور أنفسنا أي من ظهور السيئات الباطنية التي جبلت الأنفس عليها قيل منها الحمد مع الرياء والسمعة وكذا مع إثبات الحول والقوة ومن سيئات أعمالنا أي من مباشرة الأعمال السيئة الظاهرة التي تنشأ عنها وفيه اعتراف بأن البواطن والظواهر مملوءة من العيوب ومحشوة من الذنوب ولذا قيل وجودك ذنب لا يقاس به ذنب قيل منها التصيف بلا إخلاص وعدم رؤية التوفيق والاختصاص ولولا حفظه تعالى مع توفيقه لما استقام أحد على طريقه لولا الله ما أهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا من يهده الله أي من يرد الله هدايته الموصلة إليه وعنايته المقربة لديه فلا مضل له أي فلا أحد يقدر على إضلاله من المضلين من شياطين الإنس والجن أجمعين ومن يضلل أي من يرد الله جهالته وعن الوصول إلى الحق ضلالته فلا هادي له أي فلا أحد يقدر على هدايته من الهادين من الأنبياء والمرسلين قال الله تعالى إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمتهدين القصص وفيه إيذان بأن الأمر كله لله وليس لما سواه إلا ما قدر له وقضاه من الكسب والاختيار وربك يخلق ما يشاء ويختار القصص ولظهور قصور عقولنا الفانية عن إدراك أسرار الحكم البالغة الباقية قال علي كرم الله وجهه لا يظهر سر القضاء والقدر إلا يوم القيامة ثم اعلم أن الضمير البارز ثابت في يهده وأما في يضلل فغير موجود في أكثر النسخ وهو عمل بالجائزين والأول أصل وفيه وصل والثاني فرع وفيه فصل وفيه نكته أخرى لا تخفى على أرباب الصفا وأشهد أي أعلم وأبين أن لا إله أي لا معبود أو لا مقصود او لا موجود في نظر أرباب الشهود إلا الله أي الذات الواجب الوجود صاحب الكرم والجود قال الطيبي أفرد الضمير في مقام التوحيد لأنه إسقاط الحدوث وإثبات القدم فأشار أولا إلى التفرقة وثانيا إلى الجمع ه وقد يقال إن الأفعال المتقدمة أمور ظاهرية يحكم بوجودها على الغير أيضا
بخلاف الشهادة فإنه أمر قلبي غيبي لا يعلم بحقيقته إلا هو شهادة مفعول مطلق موصوف بقوله تكون أي بخلوصها للنجاة أي الخلاص من العذاب في الدارين على تقدير الاكتفاء بها وسيلة أي سببا لا علة ولرفع الدرجات أي العاليات في الجنان الباقيات كفيلة أي متضمنة ملتزمة والمعنى أن الشهادة إذا تكررت وانتجت ارتكاب الأعمال الصالحة واجتناب الأفعال الطالحة صارت سببا لعلو الدرجات وكانت مانعة عن الوقوع في الدركات وبما قررناه اندفع ما يرد على المصنف من أن دخول الجنة بالإيمان ورفع الدرجات بالأعمال ولكون التوفيق على هذا السبب ومن فضله لا ينافي قوله عليه الصلاة والسلام لن ينحى أحد بعمله وأشهد أن محمدا هو في الأصل اسم مفعول من حمد مبالغة حمد نثل من الوصفية إلى الاسمية سمي به والأسماء تنزل من السماء لوصوله إلى المقام المحمود الي يحمده الأولون والآخرون عبده إضافة تشريف وتخصيص إشارة إلى كمال مرتبته في مقام العبودية بالقيام في أداء حق الربوبية وقدمه لأنه أشرف أوصافه وأعلاها وأفضلها وأغلاها ولذا ذكره الله تعالى بهذا الوصف في كثير من المواضع فقال سبحان الذي أسرى بعبده الإسراء تبارك الذي نزل الفرقان على عبده الفرقان فأوحى إلى عبده ما أوحى النجم ولله در القائل لا تدعني إلا بيا عبديا فإنه أشرف أسمائيا وما أحسن قول القاضي عياض ومما زادني عجبا وتيها وكدت بأخمصي أطأ الثريا دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا ورسوله إشارة إلى أعلى مراتب القرب وأولى منازل الحب وهو الفرد الأكمل والواصل إلى المقام الأفضل وفي الجمع بين الوصفين تعريض للنصارى حيث غلوا في دينهم وأطروا في مدح نبيهم ثم قيل النبي والرسول مترادفان والأصح أن النبي إنسان ذكر حر من بني آدم أوحي إليه بشرع وإن لم يؤمر بتبليغه فإن أمر به فرسول أيضا فالأول أعم من الثاني فكل رسول نبي ولا عكس وذكر الأخص في هذا المقام أنص على معنى المرام الذي بعثه أي الله كما في نسخة أي أرسله إلى الثقلين وقيل إلى الملائكة أيضا وقيل إلى سائر الحيوانات وقيل إلى جميع المخلوقات كما يدل عليه خبر مسلم وأرسلت إلى الخلق كافة وطرق حال الإيمان من الأنبياء والكتب والعلماء قد عفت آثارها أي اندرست أخبارها والجملة حالية والمعنى أن الله تعالى أرسله وأظهره في حال كمال احتياج الناس
إليه عليه الصلاة والسلام فإنهم كانوا في غاية من الضلالة ونهاية من الجهالة إذ لم يكن حينئذ على وجه الأرض من يعرفها إلا أفراد من أتباع عيسى عليه الصلاة والسلام استوطنوا زوايا الخمول ورؤوس الجبال وآثروا الوحدة والأفول عن الخلق بالاعتزال وخبت أنوارها أي خفيت وانطفأت بحيث لا يمكن اقتباس العلم المشبه بالنور كما في كمال الظهور ووهنت أي ضعفت حتى انعدمت أركانها من أساس التوحيد والنبوة والإيمان بالبعث والقيامة وقيل المراد الصلوات والزكوات وسائر العبادات وجهل بصيغة المجهول مكانها مبالغة في ظهور ظلمة الجهل وغلبة الفسق وكثرة الظلم وقلة العدل فشيد أي رفع وعلى وأظهر وقوى بما أعطيه من العلوم والمعارف التي لم يؤتها أحد مثله فيما مضى صلوات الله أي أنواع رحمته وأصناف عنايته نازلة عليه وفائفة لديه ومتوجهة إليه وفي نسخة منسوبة إلى السيد عفيلف الدين زيادة وسلامه عليه يعني جنس السلامة من كل آفة في الدارين وهي جملة معترضة إخبارية أو دعائية وهي الأظهر من معالمها جمع المعلم وهو العلامة ما عفا ما موصولة أو موصوفة مفعول شيد ومن بيانية متقدمة والمعنى أظهر وبين ما اندرس وخفي من آثار طرق الإيمان وعلامات أسباب العرفان والإيقان وشفى عطف على شيد من العليل بيان مقدم لمن رعاية للسجع في تأييد كلمة التوحيد أي تأكيده وتقويته ونصرته وإعانته متعلق بشفى ومفعوله قوله من كان على شفا أي وخلص من كان قريبا من الوقوع في حفرة الجحيم والسقوط في بئر الحميم إشارة إلى قوله تعالى وكنتم على شفا أي طرف حفرة من النار فانقذكم منها آل عمران وقيل من للتبعيض أي أبرأ من جملة المعلولين من كان على إشراف من الهلاك إيماء إلى أنه طبيب العيوب وحبيب القلوب وفي الكلام صنعة جناس وهو تشابه الكلمتين لفظا وصنعه طباق وهو الجمع بين الضدين في الجملة وأغرب السيد جمال الدين حيث قال والعليل بعين مهملة في أصل سماعنا وجميع النسخ الحاضرة ويجوز أن يقرأ بغين معجمة ويكون من الغل بمعنى الحقد ووجه غرابته إما لفظا فلفوت المناسبة بين الشفاء والعلة وإما معنى فلذهاب عموم العلل المستفاد من جنس العليل واقتصاره على علة الحقد فقط مع عدم ملاءمته للمقام وأوضح سبيل الهداية أي بين وعين طريق الاهتداء إلى المطلوب وسبيل الوصول إلى المحبوب لمن أراد أن يسلكها والسبيل يذكر ويؤنث أي لمن طلب وشاء من نفسه أن يدخل فيها وإرادة العبد تابعة لإرادة الله تعالى وما تشاؤون إلا أن يشاء الله الإنسان وأظهر كنوز السعادة أي المعنوية وهي المعارف والعلوم والأعمال العلية والأخلاق والشمائل والأحوال البهية المؤدية إلى الكنوز الأبدية والخزائن السرمدية لمن قصد أن يملكها أي بملكه يتوصل بها إلى ملكها ويتوسل بها إلى ملكها قال تعالى وإذا رأيت ثم رأيت نعيما أي كثيرا
وملكا كبيرا الإنسان وفي قوله أراد وقصد إشارة إلى ما قال بعض المشايخ لا بد من السعي ولا يحصل بالسعي ووجه التخصيص أنهم المنتفعون بالإيضاح والإظهار كقوله تعالى هدى للمتقين البقرة ثم قيل يرد عليه بناء على النسخة المشهورة في الاكتفاء بالصلاة دون السلام ما نقله النووي عن العلماء من كراهة إفراد أحداهما عن الآخر لكن يحتمل أن محل الكراهة فيمن اتخذه عادة وهو ظاهر أو يحمل على أنه جمع بينهما بلسانه واقتصر على كتابه أحدهما وهذا بعيد أو الكراهة بمعنى خلاف الأولى لإطلاقها عليه كثرا وهو الأولى أما بعد أتى به اقتداء به عليه الصلاة والسلام وبأصحابه فإنهم كانوا يأتون به في خطبهم للانتقال من أسلوب إلى آخر ويسمى فصل الخطاب قيل أول من قال به داود عليه الصلاة والسلام وأما التفصيل المجمل وهو كلمة شرط محذوف فعله وجوبا وبعد من الظروف الزمانية متعلق بالشرط المحذوف وهو مبني على الضم لقطعه عن الإضافة والمضاف إليه منوي والتقدير مهما يذكر شيء من الأشياء بعد ما ذكر من البسملة والحمدلة والصلاة والثناء فإن التمسك بهديه أي التشبت والتعلق بطريقة عليه الصلاة والسلام لا يستتب بتشديد الموحدة أي لا يستقيم ولا يستمر أو لا يتهيا ولا يتأتي إلا بالاقتفاء أي بالاتباع التام لما صدر أي ظهر من مشكاته أي صدره أو قلبه أو فمه والأول أظهر فإن المشكاة لغة هي الكوة في الجدار الغير النافذ يوضع فيها المصباح استعيرت لصدره عليه الصلاة والسلام لأنه كالكوة ذو وجهتين فمن جهة يقتبس النور من القلب المستنبر ومن أخرى يفيض ذلك النور المقتبس على الخلق وشبهت اللطيفة القدسية التي هي القلب بالمصباح المضيء ثم الكل مأخوذ من قوله تعالى الله نور السموات والأرض مثل نوره قيل نور محمد كمشكوة فيها مصباح النور هذا ويحتمل أن يرجع الضمير في هديه إلى الله تعالى والمراد بهديه توحيده ويؤيده عطف قوله الآتي والاعتصام بحبل الله عليه غايته أنه وضع الظاهر موضع الضمير دفعا للتوهم وتبعا للوارد في قوله تعالى واعتصموا بحبل الله آل عمران وعكس في الأول لظهوره ودلالة المقام عليه فلو بين الضمير بالتصريح لكان أولى سيما مع وجود الفصل بفصل الخطاب والله أعلم بالصواب والاعتصام بالنصب ويجوز رفعه أي التمسك بحبل الله وهو القرآن لما ورد القرآن حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض شبه به لأنه يتوسل به إلى المقصود ويحصل به الصعود إلى مراتب السعود
وفيه إشارة إلى أنه قابل للتعلي والتدلي ولذا ورد في الحديث القرآن حجة لك أو عليك فهو كالنيل ماء لمحجوبين قال تعالى يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا البقرة وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا الإسراء لا يتم أي لا يكمل الاعتصام بالكتاب إلا ببيان كشفه أي من السنة النبوية والإضافة بيانية قال تعالى لتبين للناس ما نزل إليهم النحل ولا خفاء في الإجمالات القرآنية والبيينات الحديثية فإن الصلاة مجملة لم يبين أوقاتها وأعدادها وأركانها وشرائطها وواجباتها وسننها ومكروهاتها ومفسداتها إلا السن وكذا الزكاة لم يعلم مقدارها وتفاصيل نصابها ومصارفها إلا بالحديث وكذا الصوم والحج وسائر الأمور الشرعية والقضايا والأحكام الدينية وتمييز الحلا والحرام وتفاصيل الأحوال الأخروية فعليك بالكتاب والسنة وإجماع الأمة بالاجتناب عن طريق أرباب الهوى وأصحاب البدعة لتكون من الفرقة الناجية السالكة طريق المتابعة على وجه الاستقامة ولله در القائل كل العلوم سوى القرآن مشغلة إلا الحديث وإلا الفقه في الدين العلم متبع ما فيه حدثنا وما سوى ذاك وسواس الشياطين وما قاله بعض الصوفية من أن حدثنا باب من أبواب الدنيا مراده أنه إذا لم يرد به مرضاه المولى ولذا قال بعض العلماء المحديثن طلبنا العلم لغير الله فأبي أن يكون إلا لله وقيل لأحمد بن حنبل إلى متى العلم فأين العمل قال علمنا هذا هو العمل وقد روى ابن عباس عن علي كرم الله وجهه أنه عليه الصلاة والسلام خرج بوما من الحجرة الشريفة وقال اللهم راحم خلفائي قلنا من خلفاؤك يا رسول الله قال خلفائي الذين يروون أحاديثي وسنني ويعلمونها الناس وفي صحيح البخاري أن جابر بن عبد الله الأنصاري ارتحل من المدينة مسافة شهر لتحصيل حديث واحد وكان كتاب المصابيح قيل أحاديثه أربعة آلاف وأربعمائة وأربعة وثلاثون حديثا وزاد صاحب المشكاة ألفا وخمسمائة وأحد عشر حديثا فالمجموع خمسة آلاف وتسعمائة وخمسة وأربعون وينضبط بستة آلاف إلا كسر خمس وخمسين الذي صنفه فقيها من أصحاب الوجوه قال بعض مشايخنا ليس له قول ساقط وكان ماهرا في علم القراءة عابدا زاهدا جامعا بين العلم والعمل على طريقة السلف الصالحين كان يأكل الخبز وحده بلا إدام فعدل عن ذلك لكبره وعجزه فصار يأكله بالريت وقيل بالزبيت وقد روى عنه الحديث جماعة من الأكابر كالحافظ أبي موسى المديني والشيخ أبي النجيب السهروردي
عم صاحب العوارف وله غير المصابيح تصانيف مشهورة كشرح السنة في الحديث وكتاب التهذيب في الفقه ومعالم التنزيل في التفسير محيي السنة أي الأدلة الحديثية من أقواله وأفعاله وتقريره وأحواله عليه الصلاة والسلام روي أنه لما جمع كتابه المسمى بشرح السنة رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال له أحياك الله كما أحييت سنتي فسار هذا اللقب علما له بطريق الغلبة توفي سنة ست عشرة وخمسمائة بمرو ودفن عند شيخه واستاذه القاضي حسين المروزي فقيه خراسان قامع البدعة أي قاطعها ودافع أهلها أو مبطلها ومميتها أبو محمد كنيته الحسين اسمه وهو مرفوع على أنه بدل أو عطف بيان ابن مسعود نعته الفراء بالجر نعت لأبيه وهو الذي يشتغل الفرو أو يبيعه وهو غير الفراء النحوي المشهور على ما توهم بعضهم فإنه ينقل عنه في تفسيره البغوي بالرفع ويجوز جزه منسوب إلى بغ وقيل إلى بغشور قرية بين مرو وهراة في حدود خراسان والاسم المركب تركيبا مزجيا بنسب إلى جزئه الأول كمعدي في معدي كرب وبعل في بعلبك وإنما جاءت الواو في النسبة إجراء للفظة بغ مجرى محذوف العجز كالدموي ولئلا يلتبس بالبغي بمعنى الزاني وقيل إنه منسوب على خلاف القياس رفع الله درجته وأسبغ عليه رحمته والجملة دعائية إيماء إلى قوله تعالى يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات المجادلة اجمع كتاب خبر كان صنف أي ذلك الكتاب في بابه أي في باب الحديث فإنه جمع الأحاديث المهمة التي لا يستغني عنها سالك طريق الآخرة ولو كان من الأئمة على ترتيب أبواب الكتب الفقهية ليسهل الكشف ويفسر بعض الأحاديث بعضها الإجمالية وتتبين المسائل الخلافية بمقتضى الدلالات الحديثية وأضبط عطف على أجمع لأنه لما جرد عن الأسانيد وعن اختلاف الألفاظ وتكرراها في المسانيد صار أقرب إلى الحفظ والضبط وأبعد من الغلط والخبط لشوارد الأحاديث جمع شاردة وهي النافرة والذاهبة عن الدرك من باب إضافة الصفة إلى الموصوف وأبداها عطف تفسير أي وحشياتها شبهت الأحاديث بالوحوش لسرعة تنفرها وتبعدها عن الضبط والحفظ ولذا قيل العلم صيد والكتابة قيد ولما سلك أي البغوي رضي الله عنه جملة معترضة دعائية أي سلك في مسلك تصنيفة هذا طريق الاختصار أي بالاكتفاء على متون الأحاديث على وجه الاقتصار وحذف الأسانيد عطف على سلك وقيل مصدر مضاف عطف على طريق وهو على الوجهين
عطف تفسير والمراد بالاسناد إما حذف الصحابي وترك المخرج في كل حديث وهو مجاز من باب إطلاق الكل على البعض أي طرفي الإسناد وهو مراد المصنف ظاهرا من قوله لكن ليس ما فيه أعلام كالأغفال وإما معناه الحقيقي على مصطلح أهل الحديث وهو حكاية طريق متن الحديث بحيث يعلم رواته ثم إنه إنما حذفها لعدم الفائدة في ذكرها لأن المقصود منها أن يعلم عند التعارض راجح الحديث من مرجوحه وناسخة من منسوخه بسبب زيادة عدالة الرواة وتقدم بعضهم على بعض ونحو ذلك من الأمور التي لا بد للمجتهد منها ولما عدم المجتهدون في هذه الأعصار وندر وجودهم في الأمصار ووضع هذا الكتاب للصلحاء الأبرار لم يكن في ذكرها نفع كثير فاقتصر على بيان الصحة والحسن إجمالا بقوله من الصحاح والحسان إكمالا تكلم فيه جواب لما أي طعن في بعض أحاديث كتابه بعض النقاد بضم النون وتشديد القاف أي العلماء الناقدين المميزين بين الصحيح والضعيف كذا ذكره بعض الشراح وهو غير صحيح لأن الطعن في رجال الحديث لا يكون إلا بإسناده وهو لا يختلف بذكره وعدم ذكره اللهم إلا لما وجد الطاعن فيه مطعنا ويؤيده قوله وإن كان ثقة الخ وحينئذ يكون معنى الكلام وإن كان اعتراض ذلك البعض مدفوعا عنه لكونه ثقة وإذا نسب الحديث إلى الأئمة المخرجين المرودين للحديث مع الإسناد بقوله الصحاح ما فيه حديث الشيخين أو أحدهما وإلحان ما فيه أحاديث سائر السنن فهو في حكم الإسناد وقال السيد جمال الدين أي تكلم في حقه واعترض عليه بعض المبصرين بأن صحة الحديث وسقمه متوقفة على معرفة الإسناد فإذا لم يذكر لم يعرف الصحيح من الضعيف فيكون نقصا وغن كان نقله أي نقل البغوي بلا إسناد والواو وصلية وإنه من الثقات أي المعتمدين في نقل الحديث وبيان صحته وحسنه وضعفه كالإسناد أي كذكره روي بكسر الهمزة في إنه على أنه حال من المضاف إليه في نقله وروي بفتحها للعطف على اسم كان يعني نقله بتأويل المصدر أي وإن كان نقله وكونه من الثقات كالإسناد لأن هذا شأن من اشتهرت أمانته وعملت عدالته وصيانته فيعول على نقله وإن تجرد عن إسناد لأن هذا شان من اشتهرت أمانته وعلمت عدالته وصيانته فيعول على نقله وإن تجرد عن إسناد الشيء لمحله لكن ليس ما فيه أعلام أعلام الشيء بفتح الهمزة آثاره التي يستدل بها كالأغفال بالفتح وهي الأراضي المجهولة ليس فيها أثر تعرف به وفي بعض النسخ بكسر الهمزة فيها فهما مصدران لفظا وضدان معنى وأراد بالأول كتابه المشكاة وبالثاني المصبابيح وكان حقه أن يقول لكن ليس ما فيه إغفال كالأعلام ولعله قلب الكلام تواضعا مع الإمام وهضما لنفسه عن بلوغ ذلك المرام والحاصل أنه ادعى أن في صنيع البغوي قصورا في الجملة وهو عدم ذكر الصحابة
أولا وعدم ذكر المخرج في كل حديث آخرا فإن ذكرهما مشتمل على فواشد أما ذكر الصحابي ففائدته أن الحديث قد يتعدد رواته وطرقه وبعضها صحيح ضعيف فيذكر الصحابي ليعلم ضعيف المروي من صحيه ومنها رجحان الخبر بحال الراوي من زيادة فقهه وورعه ومعرفة ناسخة ومنسوخة بتقدم إسلام الراوي وتأخره وأما ذكر المخرج فائدته تعيين لإفادة الترجيح وزيادة التصحيح ومنها المراجعة إلى الأصول عند الاختلاف في الفصول وغيرها من المنافع عند أرباب الوصول هذا وقال شيخنا العلامة ابن حجر المكل في شرحه للمشكاة عند قوله تكلم فيه بعض النقاد أي تكلم فيه باعتبار ذلك الحذف الذي استلزم عنده أن يعبر عنه بما اصطلح عليه من عند نفسه النقاد كالنووي وابن الصلاح وغيرهما فقالوا ما جنح إليه في مصابيحه من تقسيم أحاديثه إلى صحاح وحسان مع صيرورته إلى ان الصحاح ما رواه الشيخان في صحيحيهما أو أحدهما والحسان ما رواه أبو داود والترمذي وغيرهما من الأئسمة كالنسائي والدارمي وابن ماجة اصطلاح لا يعرف بل هو خلاف الصواب إذا الحسن عند أهل الحديث ليس عبارة عن ذلك لأنه وقع في كتب السنن المشار إليها غير الحسن من الصحيح والضعيف لكن انتصر له المؤلف فقال لا مشاحة في الاصطلاح بل تخطئة المرء في اصطلاحه بعيدة عن الصواب والبغوي قد صحر في كتابه بقوله أعني بالصحاح كذا وبالحسان كذا وما قال أراد المحدثون بهما كذا فلا يرد عليه شيء مما ذكر خصوصا وقد قال وما كان فيها من ضعيف أو غريب أشير إليه وأعرضت عما كان منكرا أو موضوعا ه ولا يخفى أن حمل التكلم على هذا المعنى لا يناسبه قوله وإن كان نقله ألخ ولا يلائمه قوله لكن ليس ما فيه أعلام إذ لا يصلح الأول منهما جوابا ولا الثاني استدراكا صوابا فاستخرت الله تعالى أي لقوله تعالى وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة القصص ولما ورد من حديث أنس رواه الطبراني مرفوعا ما خاب من استخار ولا ندم من استشار ولا عال من اقتصد ولأن العبد لا يعلم خيره من شره قال تعالى وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون البقرة والخير أجمع فيما اختار خالقنا واستوفقت منه بتقديم الفاء على القاف في أكثر النسخ المصححة أي طلبت من الله التوفيق وعلى الاسقامة طريق التوثيق وفي نسخة بالعكس والمعنى طلبت الوقوف على إنكار المنكر ومعرفة المعروف وفي نسخة بالمثلثة والقاف أي طلبت الوثوق والثبوت على التمييز بين المردود والمثبوت و قال ابن حجر أي أخذت من
المصابيح ما هو الوثيقة المقصودة بالذات وهو الأحاديث عرية عن وسمها بصحاح وحسان فأودعت كل حديث منه أي من المصابيح في مقره كذا في بعض النسخ هذه الفقرة موجودة والمعنى وضعت كل حديث من الكتاب في محله الموضوع في أصله من كل كتاب وباب من غير تقديم وتأخير وزيادة ونقصان وتغيير فأعلمت أين فبينت ما أغفلة أي تركه بلا اسناد عمدا من ذكر الصحابي أولا وبيان المخرج آخرا بخصوص كل حديث التراما كما رواه الأئمة جمع إمام وأصله أئمة على وزن أفعله فاعل بالنقل والإدغام ويجوز تحقيق الهمزة الثانية وتسهيلها وإبدالها والمراد منهم ههنا أئمة الحديث الذين يقتدى بهم في كل زمان من القديم والحديث المتقنون أي الضابطون الحافظون الحاذقون لمروياتهم من أتقن الأمر إذا أحكمه ومنه قوله تعالى صنع الله الذي أتقن كل شيء النمل والثقات بكسر المثلثة جمع ثقة وهم العدول والثبات الراسخون أي الثابتون بمحافظة هذا العلم الشريف والقائمون بمراعاة طرق هذا الفن المنيف مثل أبي عبد الله محمد بن إسماعيل قال ابن حجر أبوه كان من العلماء العاملين روى عن حماد بن زيد ومالك وصحب ابن المبارك وروى عنه العراقيون قال لا أعلم في جميع مالي درهما من شبهة البخاري نسبة إلى بخاري بلدة عظيمة من بلاد ما وراء النهر لتولده فيها وصار بمنزلة العلم له ولكتابه قال السيد جمال الدين المحدث يقال له أمير المؤمنين في الحديث وناصر الأحاديث النبوية وناشر المواريث المحمدية قيل لم ير في زمانه مثله من جهة حفظ الحديث واتقانه وفهم معاني كتاب الله وسنة رسوله ومن حيثية حدة ذهنه ودقة نظره ووفور فقهه وكمال زهده وغاية ورعه وكثرة اطلاعه على طرق الحديث وعلله وقوة اجتهاده واستنباطه وكانت أمه مستجابه الدعوة توفي أبوه وهو صغير فنشأ في حجر والدته ثم عمي وقد عجز الأطباء عن معالجته فرأت إبراهيم الخليل على نبينا وعليه الصلاة والسلام قائلا لها قد رد الله على ابنك بصره بكثرة دعائك له فأصبح وقد رد الله عليه بصره فنشأ متربيا في حجر العلم مرتضعا من ثدي الفضل ثم ألهم طلب الحديث وله عشر سنين بعد خروجه من المكتب ولما بلغ إحدى عشرة سنة رد على بعض مشابخه ببخارى غلطا وقع له في سند حتى أصلح كتابه من حفظ البخاري وبيانه أن شيخا من مشايخه في مجلس من مجالس حديثه قال في إسناد حديث حدثنا سفيان عن أبي الزهير عن إبراهيم فقال له البخاري أبو الزهير ليس له رواية عن إبراهيم فهيب عليه الشيخ فقال له البخاري ارجع إلى الأصل إن كان عندك فقال الشيخ
من المجلس ودخل بيته وطالع في أصله وتأمل فيه حق تأمله ثم رجع إلى مجلسه فقال للبخاري فكيف الرواية فقال أليس أبو الزهير بالهاء إنما هو الزبير بالباء وهو الزبير ابن عدي فقال صدقت وأخذ القلم وأصلح كتابه ولما بلغ ست عشرة سنة حفظ كتب ابن المبارك ووكيع وعرف كلام أصحاب أبي حنيفة ثم خرج مع أمه وأخيه أحمد بن إسماعيل إلى مكة فرجع أخوه وأقام هو لطلب الحديث فلما طعن في ثماني عشرة سنة صنف قضايا الصحابة والتابعين وأقاويلهم وصنف في المدينة المنورة عند التربة المطهرة تاريخه الكبير في الليالي المقمرة وكتبوا عنه وسنة ثماني عشرة سنة روي عنه أنه قال قل اسم رجال التاريخ الكبير أن لا يكون عندي منه حكاية وقصة إلا إني تركنها خوفا من الأطناب ولما رجع من مكة ارتحل إلى سائر مشايخ الحديث في أكثر المدن والأقاليم روي عنه أنه قال ارتحلت في استفادة الحديث إلى مصر والشام مرتين وإلى البصرة أربع مرات ولا أحصى ما دخلت مع المحدثين في بغداد والكوفة وأقمت في الحجاز ست سنين طالبا لعلم الحديث قال البخاري والحامل لي على تأليفه أنني رأيتني واقفا بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وبيدي مروحة أذب عنه فعبر لي بأني أذب عنه الكذب وما وضعت فيه حديثا إلا بعد الغسل وصلاة ركعتين وأخرجته من زهاء ستمائة ألف حديث وصنفته في ستة عشر سنة وجعلته حجة فيما بيني وبين الله وما أدخلت فيه إلا صحيحا وما تركت من الصحيح أكثر لئلا يطول وصنفته بالمسجد الحرام وما أدخلت فيه حديثا حتى استخرت الله وصليت ركعتين وتقنت صحته ه وهذا باعتبار الابتداء وترتيب الأبواب ثم كان يخرج الأحاديث بعد في بلده وغيرها وهو محمل رواية أنه كان يصنفه في البلاد إذ مدة تصنيفه ست عشرة سنة وهو لم يجاور هذه المدة بمكة وقد روي عنه انه صنف الصحيح في البصرة وروي أنه صنفه في بخاري وروي عن الوراق البخاري أنه قال قلت للبخاري جميع الأحاديث التي أوردتها في مصنفاتك هل تحفظها فقال لا يخفى علي شيء منها فإني قد صنفت كتبي ثلاث مرات وكأنه أراد بالتكرار التبييض والتنقيح ولعل كثرة نسخ البخاري من هذه الجهة ورواية أنه جعل تراجنه في الروضة الشريفة محموله على نقلها من المسودة إلى المبيضة كذا قيل ويمكن حمله على حقيقته ونقل عن أبي جمرة عمن لقيه من العارفيين أنه ما قرئ في شدة إلا وفرجت وما ركب به في مركب فغرق وأنه كان محاب الدعوة ولقد دعا لقارئه قال الحافظ ابن كثير وكان يستسقى بقراءته الغيث قيل ويسمى الترياق المجرب ونقل السيد جمال الدين عن عمه السيد أصيل أنه قال قرأت البخاري مائة وعشرين مرة للوقائع والمهمات لي ولغيري فحصل المرادات وقضى
الحاجات وهذا كله ببركة سيد السادات ومنبع السعادات عليه أفضل الصلوات وأكمل التحيات قيل وكان ورده في رمضان ختمة في كل يوم وثلثها في سحر كل ليلة ولسعه زنبور وهو في الصلاة في ستة عشر أو سبعة عشر موضعا فقيل له لم لم تخرج من الصلاة أول ما لسعك قال كنت في سورة فأجببت أن أتمها وكان يقول أرجو الله أن لا يحاسبني غني ما اغتبت أحدا فقيل له إن بعض الناس ينقم عليك التاريخ فإنه غيبة فقال إنما روينا ذلك رواية ولم نتقله من عند أنفسنا وقال عليه الصلاة والسلام بئس أخو العشيرة قال واحفظ مائة ألف حديث صحيح ومائتي ألف غير صحيح أي باعتبار كثرة طرقها مع كله حديثا وقيل كان يحفظ وهو صبي سبعين الف حديث سردا وينظر في الكتاب نظرة واحدة فيحفظ ما فيه وكان يقول دخلت بلخ فسألني أهلها أن أملي عليهم من كل من كتبت عنه فأمليت ألف حديث عن ألف شيخ ولبلوغ نهايته في معرفة علل الحديث كان مسلم بن الحجاج يقول له دعني أقبل رجليك يا أسناد الأستاذين وسيد المحدثين ويا طبيب الحديث في علله وقال الترمذي لم أر أحد بالعراق ولا بخراسان في ذلك أعلم منه وكان بسمرقند أربعمائة محدث اجتمعوا تسعة أيام لمغالطته فخلطوا الأسانيد بعضها في بعض إسناد الشاميين في العراقيين وإسناد العراقيين في الشاميين وإسناد أهل الحرم في اليمانيين وعكسه وعرضوها عليه فما استطاعوا مع ذلك أن يتغلبوا عليه بسقطه لا في إسناد ولا في متن ولما قدم بغداد فعلوا معه نظير ذلك فعمدوا إلى مائة حديث فقلبوا متونها وأسانيدها ودفعوا لكل واحد عشرة ليلقيها عليه في مجلسه الغاص بالناس امتحانا فقام أحدهم وساله عن حديث من تلك العشرة فقال لا أعرفه ثم سأله عن الثاني فقال مثل ذلك وهكذا إلى العاشر ثم قام الثاني فكان كالأول ثم الثالث وهكذا إلى أن فرغوا فالعلماء الذين كانوا مطلعين على أصل القضية وحفظه قالوا فهم الرجل والذين ما كان لهم وقوف على القضية توهموا عجزه وحملوا على قصور ضبطه وسوء حفظه فالتفت إلى الأول فقال أماد حديثا الأول بذلك الإسناد فخطأ وصوابه كذا وكذا ولا زال على ذلك إلى أن أكمل المائة فبهر الناس وأذعنوا له فإن عند الامتحان يكرم الرجل أو يهان وعند المبصرين بهذا الفن ليس من العجيب رد خطئهم إلى الصواب لأنه كان حافظ الأحاديث مع الأسانيد بل كان الغريب عندهم حفظه أسانيدهم الباطلة بمجرد سماعه مرة وإعادتها مرتبة وهذا كاد أن يكون خرق العادة ومحض الكرامة فإنه لا يتصور بدون الإلهامات الإلهية والعنايات الرحمانية
ولما قدم البصرة نادى مناد يعلمهم بقدومه فأحدقوا به وسألوه أن يعقد لهم مجلس الإملاء فأجابهم فنادى المنادي يعلمهم أنه أجاب فلما كان من الغد اجتمع كذا وكذا ألفا من المحدثين والفقهاء فأول ما جلس قال يا أهل البصرة أنا شاب وقد سألتموني أن أحدثكم وسأحدثكم أحاديث عن أهل بلدكم تسفيدونها يعني ليست عندكم وأملى عليهم من أحاديث أهل بلدهم مما ليس عندهم حتى بهرهم ومن ثم كثر ثناء الأئمة عليه حتى صح عن أحمد ابن حنبل أنه قال ما أخرجت خراسان مثله وقال غير واحد هو فقيه هذه الأمة وقال إسحاق بن راهويه يا معشر أصحاب الحديث انظروا إلى هذا الشاب واكتبوا عنه فإنه لو كان في زمن الحسن البصري لأحتاج إليه لمعرفته بالحديث وفقهه وقد فضله بعضهم في الفقه والحديث على أحمد وإسحاق وقال ابن خزيمة ما تحت أديم السماء أعلم بالحديث منه وورث من أبيه مالا كثيرا فكان يتصدق به وكان قليل الأكل جدا قيل كان يقنع كل يوم بلوزتين أو ثلاث لوزات وقيل لم يأكل الإدام أربعين سنة قيل كان يدخل عليه كل شهر من مستغلاته خمسمائة درهم فكان يصرفها في الفقراء وطلبة العلم وكان يرغبهم في تحصيل الحديث كثير الإحسان إلى الطلبة مفرطا في الكرم وأعطى خمسة آلاف درهم ربح بضاعة له فأخر فأعطاه آخرون عشرة آلاف فقال إني نويت بيعها للأولين ولا أحب أن أغير نيتي وعثرت جاريته بمحبرة بين يديه فقال لها كيف تمشين فقالت إذا لم يكن طريق كيف أمشي فقال اذهبي فأنت حرة لله فقيل له يا أبا عبد الله أغضبتك فأعتقتها فقال أرضيت نفسي بما فعلت ولما نبي رباطا مما يلي بخاري أجتمع إليه خلق كثير يعينونه فكان ينقل معهم اللبن فيقال قد كفيت فقال هذا هو الذي ينفعني ولما رجع إلى بخاري نصبت له القباب على فرسخ منها واستقبله عامة أهلها ونثر عليه الدراهم والدنانير وبقي مدة يحدثهم وأرسل إليه أمير البلد خالد بن محمد الذهلي نائب الخلافة العباسية يتلطف معه ويسأله أن يأتيه بالصحيح ويحدثهم به في قصره فامتنع وقال لرسوله قل له إني لا أذل العلم ولا أحمله إلى أبواب السلاطين فإن احتاج إلى شيء منه فليحضر في مسجدي أو داري فإن لم يعجبك هذا فأنت سلطأن فامنعني من المجلس ليكون لي عذر عند الله يوم القيامة فإني لا أكتم العلم وروي أنه قال العلم يؤتي ولا يأتي فراسله أن يعقد مجلسا لأولاده ولا يحضر غيرهم فامتنع من ذلك أيضا وقال لا يسعني أن أخص بالسماع قوما دون قوم وروي انه قال العلم لا يحل منعه فحصلت بينهما وحشة فاستعان الأمير بعلماء بخاري عليه حتى تكلموا في مذهبه فأمره بالخروج من البلد فدعا عليهم بقوله اللهم أرهم ما قصدوني به في أنفسهم وأولادهم وأهاليهم فكان مجاب الدعوة فلم يأت شهر حتى ورد أمر الخلافة بأن ينادي على الأمير فأركب حمارا فنودي عليه فيها وحبس إلى أن مات ولم يبق أحد ممن ساعده إلا وابتلى ببليه شديدة ولما خرج من بخاري كتب إليه أهل سمرقند يخطبونه لبلدهم فسار إليهم فلما كان بخرتنك بمعجمة مفتوحة في الأشهر أو مكسورة فراء ساكنة ففوقية مفتوحة فنون ساكنة فكاف
موضع قريب بسمرقند على فرسخين وقيل نحو ثلاثة أيام بلغه انه وقع بينهم بسببه فتنة فقوم يريدون دخوله وآخرون يكرهونه وكان له أقرباء بها فنزل بها حتى ينجلي الأمر فأمام أيام فمرض حتى وجه إليه رسول من أهل سمرقتد يلتمسون خروجه إليهم ن فأجاب وتهيأ للركوب ولبس خفيه وتعمم فلما مشى قدر عشرين خطوة إلى الدابة ليركيها قال أرسلوني فقد ضعفت فأرسلوه فدعا بدعوات ثم اضطجع فقضى عليه فسال منه عرق كثير لا يوصف وما سكن العرق حتى ادرج في أكفانه وقيل ضجر ليلة فدعا بعد أن فرغ من صلاة الليل اللهم قد ضاقت علي الأرض بما رحبت فاقبضني إليك فمات عن غير ولد ذكر ليلة عيد الفطر سنة ست وخمسين ومائتين عن اثنتين وستين سنة وكانت ولادته يوم الجمعة بعد صلاة العصر في شهر شوال أربع وتسعين ومائة ولما صلى عليه ووضع في حفرته فاح من تراب قبره رائحة طيبة كالمسك وجعل الناس يختلفون إلى قبره مدة يأخذون من قبره ويتعجبون من ذلك قال بعضهم رأيت النبي صلى الله عليه وسلم ومعه جماعة من أصحاب وهو واقف فسلمت عليه فرد عليه السلام فقلت ما وفوقك هنا يا رسول الله قال أنتظر محمد بن إسماعيل قال فلما كان بعد أيام بلغني موته فنظرت فإذا هو قد مات في الساعة التي رأيت النبي صلى الله عليه وسلم فيها و بعد نحو سنتين من موته استسقى أهل مرارا فلم يسقوا فقال بعض الصالحين لقاضيها أرى أن يخرج بالناس إلى قبر البخاري ونستقي عنده فعسى الله ان يسقينا ففعل وبكى الناس عند القبر وتشفعوا بصاحبه فأرسل الله تعالى عليهم السماء بماء غزير أقام الناس من أجله نحو سبعة أيام لا يستطيع أحد الوصول إلى سمرقتد من كثرة المطر ثم اعلم أن في زمن الصحابة وكبار التابعين لم تكن الأحاديث مدونة لنهيه عليه الصلاة والسلام أصحابه عن كتابه الحديث مخافة خلطه بالكلام القديم وأيضا دائرة حفظهم كانت واسعة ببركة صحبته وقرب مدته وأيضا أكثرهم لم يكونوا عارفين بصنعه الكتابة فظهر في آخر عصر التابعين تدوين الأحاديث والأخبار وتصنيف السنن والآثار وتصدوا لهذا الأمر الشريف كالزهري وربيع بن صبيح وسعيد بن أبي عروية وغيرهم وكان دأبهم تصنيف كل باب على حدة إلى عهد كبار أهل الطبقة الثالثة فألفوا الحديث على ترتيب أبواب الفقه فصنف الإمام مالك مقدم أهل المدينة موطأة وجمع فيه أحاديث أهل الحجاز مما ثبت وصح عنده وأدرج فيه أقوال الصحابة وفتوى التابعين ومن بعدهم وصنف من أهل مكة أبو حامد عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج ومن أهل الشام أبو عمر وعبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي ومن أهل الكوفة سفيان الثوري ومن البصريين أبو سلمة حماد بن سلمة وبعدهم كل واحد
من أعيان العلماء المجتهدين ألف كتابا وكتب أحمد بن حنيل وإسحاق بن راهويه وعثمان بن أبي شيبة وغيرهم من كبراء المحدثين مسانيدهم وبعضهم على ترتيب أبواب الفقه لكن في الكتب المذكورة لم يميز الصحيح والضعيف ولما اطلع البخاري على تصانيفهم حصل له العزم بطريق الجزم لتحصيل الحزم على تأليف كتاب يكون جميع أحاديثه صحيحة وقد روي عنه أنه قال كنت عند شيخي إسحاق بن راهوية يوما فقال لو جمعتم كتابا مختصرا بصحيح سنة النبي صلى الله عليه وسلم فرقع في قلبي تصنيف كتاب في هذا الباب وتقدم رؤياه أيضا فشرع فيه فلما كمله عرضه على مشايخه مثل إسحاق بن راهويه وعلي بن المديني وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين وغيرهم استحسنوه وشهدوا بصحة كتابه وأنه لا نظير له في بابه واستثنوا أربعة أحاديث وتوقفوا في صحتها قال العقيلي والحق مع البخاري فيها أيضا فإنها صحيحة ثم اختلف علماء الحديث وشراح البخاري في عدد أحاديثه بالمكرر وإسقاط المكرر والذي حققه الحافظ ابن حجر في شرح البخاري أن جملة أحاديثه مع التعاليق والمتابعات والشواهد ومع المكررات تسعة آلاف واثنان وثمانون حديثا وبإسقاط المكرر أحاديث المرفوعة ألفان وستمائة وثلاث وعشرون حديثا وأعلى أسانيد أحاديثه وأقربه إليه عليه الصلاة والسلام ما يكون الواسطة ثلاثة ووجد فيه من هذا القبيل في صحيحة مع المكرر اثنان وعشرون حديثا وبإسقاط المكرر سنة عشر حديثا وقد أفرده بعض العلماء ثم اتفقت العلماء علي الصحيحين بالقبول وأنهما أصح الكتب المؤلف ثم الجمهور على أن صحيح البخاري أرجحهما وأصحهما قيل ولم يوجد عن أحد التصريح بنقيضه لأن قول أبي علي النيسابوري ما تحت أديم السماء أصح من كتاب مسلم ليس فيه تصريح بأصحيته على كتاب البخاري لأن نفي الأصحية لا ينفي المساواة وتفضيل بعض المغاربة لصحيح مسلم محمول على ما يرجع لحسن السياق وجوده الوضع والترتيب إذ لم يفصح أحد منهم بأن ذلك راجع إلى الأصحية ولو صرحوا به لرد عليهم شاهد الوجود لأن ما يدور عليه الصحة من الصفات الموجودة في صحيح مسلم موجودة في صحيح البخاري على
وجه أكمل وأسد فإن شرطه فيها أقوى وأشد وأما رجحانه من حيث الاتصال فلاشتراطه أن يكون الراوي قد ثبت له الاجتماع بمن يروي عنه ولو مرة واكتفى مسلم بمجرد المعاصرة نظرا لإمكان اللقي وأما رجحانه من حيث العدالة والضبط فلأن الرجال تكلم فيهم من رجال مسلم أكثر عددا ممن تكلم فيهم من رجال البخاري مع أنه لم يكثر من إخراج حديثهم بل غالبهم من شيوخه الذين أخذ عنهم ومارس حديثهم وميز جيدها من غيره بخلاف مسلم فإن أكثر من تفرد بتخريج أحاديثه من تكلم فيه هو ممن تقدم عصره من التابعين وتابعيهم ولا شك أن المحدث أعرف بحديث شيوخه ممن تقدم عنهم وأما رجحانه من حيث عدم الشذوذ والإعلال فلأن ما انتقد على البخاري من الأحاديث أقل عددا مما انتقد على مسلم ولا يقدح فيها إخراجها لمن طعن فيه لأن تخريج صاحب الصحيح لأي راو كان متقض لعدالته عنده وصحة ضبطه وعدم غفلته إن خرج له في الأصول فإن خرج في المتابعات والشواهد والتعاليث كانت درجاته متقاربة في الضبط وغيره لكن مع حصول ووصف الصدق له فالطعن فيمن خرج له أحدهما مقابل لتعديله فلا يقبل الجرح إلا مفسرا بما يقدح في عدالته أو في ضبطه مطلقا أو في ضبطه لخبر بعينه لتفاوت الأسباب الحاملة للأئمة على الجرح إذ منها ما لا يقدح ومنها ما يقدح وقد كان أبو الحسن المقدسي يقول فيمن خرج له أحدهما في الصحيح هذا جاز القنطرة يعني لايلتفت لما قيل فيه لأنهما مقدمان على أئمة عصرهما ومن بعدهما في معرفة الصحيح والعل فهو أصح الكتب بعد كتاب الله العزيز ويؤيده ما نقل عن الحاكم أبي أحمد شيخ الحاكم أبي عبد الله النيسابوري أن البخاري إمام المحديثين وكل من أتى بعده وصنف كتابا في الحديث وأفرده ففي الحقيقة إنما أخذه عنه فالفضل للمتقدم حتى أن مسلما أتى بأحاديثه مفرقا في كتابه وتجلد غاية التجلد حيث لم يسندها إلى جنابه وقال الدار قطني لولا البخاري لما راح مسلم ولا جاء أخذ كتابه زاد عليه أبوابه وللبخاري مصنفات غير الصحيح كأدب المفرد ورفع اليدين في الصلاة والقراءة خلف الإمام وبر الوالدين والتاريخ الكبير والأوسط والصغير وخلق أفعال العباد وكتاب الضعفاء والجامع الكبير والمسند الكبير والتفسير الكبير وكتاب الأشربة وكتاب الهبة وأسامي الصحابة وكتاب الوجدان وكتاب العلل وكتاب الكنى وكتاب المبسوط وكتاب الفوائد روي عنه أنه قال رويت الحديث عن ألف وثمانمائة محدث روى عنه خلق كثير كمسلم في غير صحيحه والترمذي وابن خزيمة وأبي زرعة
وأبي حاتم وكذا النسائي في قول وغيرهم وبالجملة قيل روى عنه مائة ألف محدث روي عن يحيى بن جعفر بن أيعين المروي أنه قال لو قدرت على أن أزيد من عمري في عمر البخاري لفعلت لأن موتي واحد من الناس وموت البخاري ذهاب العلم ومة ت العالم ونعم ما قيل إذا ما مات ذو علم وفتوى فقد وقعت من الإسلام ثلمة قال محمد بن أحمد المروزي كنت نائما بين الركن والمقام فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال لي يا أبا زيد إلى متى تدرس كتاب الشافعي ولا تدرس كتابي فقلت يا رسول الله وما كتابك قال جامع محمد بن إسماعيل البخاري وأبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري بالتصغير نسبة إلى بني قشير قبيلة من العرب وهو نيسابوري أحد أئمة علماء هذا الشأن سمع من مشايخ البخاري وغيرهم كأحمد ابن حنبل وإسحاق بن راهويه وقتيبة بن سعيد والقعنبي وروى عنه جماعة من كبار أئمة عصره وحفاظ دهره كأبي حاتم الرازي وابن خزيمة وخلائق وله المصنفات الجليلة غير جامعة الصحيح كالمسند الكبير صنفه على ترتيب أسماء الرجال لا على تبويب الققه وكالجامع الكبير على ترتيب الأبواب وكتاب العل وكتاب أوهام المحدثين وكتاب التميز وكتاب من ليس له إلا راو واحد وكتاب طبقات التابعين وكتاب المخضرمين قال صنفت الصحيح من ثلاثمائة ألف حديث مسموعة وهو أربعة آلاف بإسقاط المكرر وأعلى أسانيده ما يكون بينه وبي النبي صلى الله عليه وسلم أربعة وسائط وله بضع وثمانون حديثا بهذا الطريق ولد عام وفاة الشافعي سنة أربع ومائتين و توفي في رجب سنة إحدى وستين ومائتين وقد رحل إلى العراق والحجاز والشام ومصر وقدم بغداد غير مرة وحدث بها وكان آخر قدومه بغداد سنة سبع وخمسين ومائتين وكان عقد له مجلس بنيسابور للمذاكرة فذكر له حديث فلم يعرفه فانصرف إلى منزله وقدمت له سلة فيها تمر فكان يطلب الحديث ويأخذ تمرة تمرة فأصبح وقد فني التمر ووجد الحديث ويقال إن ذلك كان سبب موته ولذا قال ابن الصلاح كانت و فاته بسبب غريب نشأ من غمرة فكرة علمية وسنه قيل خمس وخمسون وبه جزم ابن الصلاح وتوقف فيه الذهبي وقال إنه قارب الستين وهو أشبه من الجزم ببلوغه الستين قال شيخ مشايخنا علامة العلماء المتبحرين شمس الدين محمد الجزري في مقدمة شرحه للمصابيح المسمى بتصحيح المصابيح إني زرت قبره بنيسابور وقرأت بعض صحيحه على سبيل التيمن والتبرك عند قبره ورأيت آثار البركة ورجاء الإجابة في تربته وأبي عبد الله مالك بن أنس وهو غير أنس بن مالك كما توهم الأصبح نسبة إلى ذي أصبح ملك من ملوك اليمن أحد أجداد الإمام مالك بن أنس صاحب المذهب وأخر عن
البخاري ومسلم ذكرا وإن كان مقدما عليهما وجودا ورتبة وإسنادا لتقدم كتابيهما على كتابه ترجيحا لعدم التزامه تصحيحا وهو من تابعي التابعين وقيل من التابعين إذ روي أنه روى عن عائشة بنت سعد بن أبي وقاص وصحيتها ثابته قال الحافظ ابن حجر كتاب مالك صحيح عنده وعند من تقلده على ما اقتضاه نظره من الاحتجاج بالمرسل والمنقطع وغيرهما وقال السيوطي ما فيه من المراسيل فإنها مع كونها حجة عنده بلا شرط وعند من وافقه من الأئمة على الاحتجاج بالمرسل حجة أيضا عندنا إذا اعتضد وما من مرسل في الموطأ وما من مرسل في الموطأ إلا وله عاضد أو عواضد فالصواب إطلاق أن الموطأ صحيح لا يستثنى منه شيء وقد صنف ابن عبد البر كتابا في وصل ما في الموطأ من المرسل والمنقطع والمعضل قال ابن عبد البر مذهب مالك أن مرسل الثقة تجب به الحجة ويلزم به العمل كما تجب بالمسند سواء قال البخاري إمام الصنعة أصح الأسانيد مالك عن نافع عن ابن عمر وفي المسألة خلاف منتشر مشتهر وعلى هذا المذهب قالوا أصح الأسانيد عن مالك الشافعي إذ هو أجل أصحابه على الإطلاق بإجماع أصحاب الحديث ومن ثم قال أحمد سمعت الموطأ من سبعة عشر رجلا من حفاظ أصحاب مالك ثم من الشافعي فوجدته أقومهم به وأصحها عن الشافعي أحمد ولاجتماع الأئمة الثلاثة في هذا السند قيل لها سلسلة الذهب قيل ولا ينافي ذلك إكثار أحمد في مسنده إخراج حديث مالك من غير طريق الشافعي وعدم إخراج أصحاب الأصول حديث مالك من جهة الشافعي أما الأول فلعل جمعه المسند كان قبل سماعه من الشافعي وأما الثاني فلطلبهم العلو المقدم عند المحدثين على ما عداه من الأغراض قال بكر بن عبد الله أتينا مالكا فجعل يحدثنا عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن وكنا نستزيده من حديثه فقال لنا يوما ما تصنعون بربيعة هو نائم في ذلك الطاق فأتينا ربيعة فنبهناه وقلنا له أنت ربيعة فقال نعم قلنا الذي يحدث عنك مالك قال نعم قلنا كيف حظي بك مالك ولم تحظ أنت بنفسك قال أما علمتم أن مثقال دولة خير من حمل علم وكأنه أراد بالدولة اللطف الرباني والتوفيق الإلهي قال ابن مهدي الثوري إمام في الحديث والأوزاعي إمام في السنة ومالك إمام فيهما وكان إذا أتاه أحد من أهل الأهواء قال له أما أنا فعلى بينه من ديني وأما أنت فشاك اذهب إلى شاك مثلك فخاصمه وقال الشافعي رأيت على باب مالك كراعا من أفراس خراسان وبغل مصر ما رأيت أحسن منه فقلت أنا أستحي من الله أن أطأ تربة فيها رسول بحافر دابة وكان مبالا في تعظيم حديثه صلى الله عليه وسلم حتى كان إذا أراد أن يحدث توضأ وجلس على صدر فراشه وسرح لحيته وتطيب وتمكن من
الجلوس على وقار و هيبة ثم حدث فقيل له في ذلك فقال أحب أن أعظم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن كلامه إذا لم يكن للإنسان في نفسه خير لم يكن للناس فيه خير وقال ليس العلم بكثرة الرواية وإنما هو نور يضعه الله في القلب قال مالك قال لي هارون الرشيد يا أبا عبد الله ينبغي أن تختلف إلينا حتى يسمع صبياننا منك الموطأ يعني الأمين والمأمون فقلت أعز الله أمير المؤمنين إن هذا العلم منكم خرج فإن أنتم أعززتموه عز وإن أنتم أذللتموه ذل وفي رواية مه يا أمير المؤمنين لا تضع عز شيء رفعه الله والعلم يؤتي ولا يأتي قال صدقت وفي رواية صدقت أيها الشيخ كان هذا هفوة مني استرها علي أخرجوا وفي رواية مه يا أمير المؤمنين لا تضع عز شيء رفعه الله والعلم يؤتي ولا يأتي قال صدقت وفي رواية صدقت أيها الشيخ كان هذا هفوة مني استرها علي أخرجوا إلى المسجد حتى تسمعوا مع الناس وسأله الرشيد ألك دار قال لا فأعطاه ثلاثة آلاف دينار وقال اشتربها دارا فأخذها ولم ينفقها ولما أراد الرشيد الشخوص قال لمالك ينبغي أن تخرج معي فإني عزمت أن أحمل الناس على الموطأ كما حمل عثمان الناس على القرآن فقال أماحمل الناس على الموطأ فلا سبيل إليه لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم افترقوا بعده في الأمصار فحدثوا فعند أهل كل مصر علم وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلاف أمتي رحمة وأما الخروج معك فلا سبيل إليه لأنه صلى الله عليه وسلم قال المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون وهذه دنانيركم كما هي إن شئتم فخذوها وإن شئتم فدعوها يعني إنك إنما كلفتني مفارقة المدينة لما صنعت إلي فلا أؤثر الدنيا على مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصح عن الشافعي أنه قال ما في الأرض كتاب من العلم أكثر صوابا من موطأ مالك وفي رواية ما تحت أديم السماء أصح منه اتفاقا وجاءه رجل من مسيرة ستة أشهر في مسألة أرسله بها اهل بلده فقص عليه خبره فقال لا أحسن قال فماذا أقول لهم قال قلا لهم قال مالك لا أحسن أخذ عن ثلثمائة تابعي وأربعمائة من تابعيهم توفي في ربيع الأول سنة تسع أو ثمان وسبعين ومائة على الأصح ودفن بالبقيع وقبره مشهور به ووولد في ربيع الأول سنة ثلاث ومائة على الأشهر قيل مكث حملا في بطن أمه ثلاث سنين وقيل أكثر وقيل سنتين قال الواقدي مات وله تسعون سنة وقيل مالك أثتب أصحاب الزهري وابن المنكدر ونافع ويحيى بن سعيد وهشام بن عروة وربيعة وجمع كثير وروى الزهري عنه مع أنه من شيوخه ومن أجلاء التابعين فهو من قبيل رواية الأكابر عن الأصاغر وقد روى عن مالك ابن جريج وابن عيينة والثوري والأوزاعي وشعبة والليث بن سعد وابن المبارك والشافعي وابن وهب وخلائق لا يحصون قال مالك قل من أخذت عنه الحديث أنه ما جاءتي ولم يأخذ مني الفتوى
وأبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي نسبه إلى شافع أحد أجداده قيل شافع كان صاحب راية بني هاشم يوم بدر فاسر وفدى نفسه فأسلم وقيل لقي شافع النبي صلى الله عليه وسلم وهو مترعوع وأسلم أبوه السائب يوم بدر وكان السائب صاحب راية بني هاشم يوم بدر فأسر وفدى ت نفسه ثم أسلم وعلى القولين يظهر وجه تخصيص النسبة إليه ثم نسبة أهل مذهبه أيضا شافعي وقول العامة شافعوي خطأ وهو المطلبي الحجازي المكي ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم يلتقي معه في عبد مناف وورد خبر عالم قريش يملأ طباق الأرض علما طرقه متماسكة وليس بموضوع خلافا لمن وهم فيه كما بينه أئمة الحديث كأحمد وأبي نعيم والبيهقي والنووي بموضوع خلافا لمن وهم فيه كما بينه أئمة الحديث كأحمد وأبي نعبم والبيهقي والنووي وقال إنه حديث مشهور وممن حمله على الشافعي أحمد وتبعه العلماء على ذلك ولد بغزة على الأصح وقيل بعسقلان وقيل باليمن وقيل بمنى وقيل بالبحر سنة خمسين ومائة اتفاقا وهي سنة وقاة أبي حنيفة وقيل ولد يوم موته قال البيهقي هذا التقييد لم أجده إلا في بعض الروايات إما بالعام فهو مشهور بين أهل التواريخ ونشأ يتيما في حجر أمه في ضيق عيش بحيث كانت لا تجد أجرة المعلم وكان يقصر في تعليمه وكان الشافعي يتلقف ما يعلمه لغيره فإذا ذهب علمهم إياه فكفى المعلم أمرهم أكثر مما لو أعطاه أجره فتركها واستمر حتى تعلم القرآن لسبع سنين ثم حبب إليه مجالسة العلماء وكان يكتب ما يستفيده منهم في العظام ونحوها لعجزه عن الورق وكان يؤثر الشعر والأدب إلى أن تمثل ببيت وعنده كاتب أستاذ مسلم بن خالد الزنجي مفتي مكة فقرعه بسوط ثم قال له مثلك يذهب بمروءته في مثل هذا أين أنت من الفقه فهزه ذلك إلى مجالسه مسلم ومن أشعاره يا أهل بيت رسول الله حبكم فرض من الله في القرآن أنزله كفاكم من عظيم القدر أنكم من لم يصل عليكم لا صلاة له ثم قدم المدينة وعمره ثلاث عشرة سنة فلازم مالكا فأكرمه وعامله لنسبه وعلمه وفهمه وأدبه وعقله بما هو اللائق بهما وكان حفظ الموطأ بمكة لما أراد الرحلة إلى مالك حين سمع أنه إمام المسلمين وكان مالك يستزيده من قراءته لإعجابه بها حتى قرأه عليه في أيام يسيرة وقال له مرة لما تفرس فيه النجابة والإمامة اتق الله إنه سيكون لك شأن وأخرى إن الله قد ألقى عليك نورا فلا تطفئه بالمعصية قال فما ارتكبت كبيرة قط ثم بعد وفاة مالك رحل من المدينة إلى اليمن وولي بها القضاء ثم رحل إلى العراق وجد في التحصيل وناظر محمد بن الحسن وغيره ونشر علم الحديث وشاع ذكره وفضله إلى أن ملأ البقاع والأسماع قال محمد بن الحسن في مدح الشافعي إنه استعار مني كتاب الأوسط لأبي حنيفة وحفظه
في يوم وليلة ولما صنف كتاب الرسالة أعجب به أهل عصره وأجمعوا على استحسانه وأنه من الخوارق حتى قال المزني قرأته خمسمائة مرة ما من مرة إلا وقد استفدت منه شيئا لم أكن غرفته وكان أحمد يدعو له في صلاته لما رأى اهتمامه بنصر السنة وصنف في العراق كتابه القديم المسمى بالحجة ثم رحل إلى مصر سنة تسع وتسعين ومائة وصنف كتبه الجديدة بها ورجع عن تلك ومجموعها يبلغ مائة وثلاثة عشر مصنفا وسار ذكرها في البلدان وقصده الناس من الأقطار للأخذ عنه وكذا أصحابه من بعده لسماع كتبه حتى اجتمع في يوم على باب الربيع تسعمخائة راحلة وابتكر أصول الفقه وكتاب القسامة وكتاب الجزية وقتال أهل البغي وكان حجة في اللغة والنحو وأذن له مسم بن خالد مفتي مكة في الإفتاء بها وعمره خمس عشرة سنة وربما أوقد له المصباح في الليلة ثلاثين مرة ولم يبقه دائم الوقود قال ابن أخته من أمه لأن الظلمة أجلى للقلوب وكان يقول إذا صح الحديث فهو مذهبي واضربوا بقولي الحائط وانفرد بالإعراض على التمسك بالحديث الضعيف في غير الفضائل ومن كلامه الدال على إخلاصه وددت أن كل ما تعلمه الناس أؤجر عليه ولا يحمدوني قط ووددت إذا ما ناظرت أحدا أن يظهر الحق على يديه ومن حكمه البالغة طلب العلم أفضل من صلاة الناقلة ومن أراد الدنيا والآخرة فعليه بالعلم أي مع العمل ما أفلح من العلم إلا من طلبه في الذلة ولقد كنت أطلب القرطاس فيعز علي لا يتعلم أحد هذا العلم بالملك وعزة النفس فيفلح ولكن من طلبه بذلة النفس وضيق العيش أفلح تفقه قبل أن ترأس فإذا ترأست فلا سبيل إلى التفقه زينه العلم الورع والحلم لا عيب في العلماء أقبح من رغبتهم فيما زهدهم الله فيه وزهدهم فيما رغبهم الله فيه فقر العلماء فقر اختيار وفقر الجهال فقر اضطرار الناس في غقلة من سورة والعصر إن الإنسان لفي خسر العصر من لم تعزه التقوى فلا تقوى له ما فرغت من العلم قط طلب فضول الدنيا عقوبة عاقب الله بها أهل التوحيد من غلبته سدة الشهوة للدنيا لزمته العبودية لأهلها ومن رضي بالقنوع زال عنه الخضوع لا يعرف الرباء إلا المخلصون لو اجتهدت كل الجهد على أن ترضي الناس كلهم فلا سبيل لذلك فأخلص عملك ونيتك لله لو أوصى رجل بشيء لأعقل الناس كلهم فلا سبيل لذلك فأخلص عملك ونيتك الله لو أوصى رجل بشيء لأعقل الناس صرف للزهاد سياسة الناس أشد من سياسة الدواب العاقل من عقله عقله عن كل مذموم ومن نم لك بن بك من وعظ أخاه سرا فقد نصحه ومن وعظه علانية فقد فضحه التواضع من أخلاق الكرام والتكبر من شيم اللئام أربع الناس قدرا من لا يرى قدره الشفاعات زكاة المروآت من ولي القضاء فلم يفتقر فهو لص لا بأس للفقيه أن يكون معه سفيه يسافه به مداراة الأحمق غاية لا تدرك الانبساط إلى الناس مجلبة لقرناء السوء والانفراد عنهم مكسبة للعداوة فكن بين المنقبض والمنبسط لأن
يبتلى المرء بكل ذنب ما عدا الشرك خير من أن ينظر في الكلام فإني والله أطلعت من أهل الكلام على شيء ما ظنته قط وكان يكتب ثلث الليل ثم يصلي ثلثة ثم ينام ثلثة ويختم كل يوم ختمة أقول لعله في أيام رمضان وقال ما كذبت قط ولا حلقت بالله صادقا ولا كاذبا وما تركت غسل الجمعة قط وما شبعت منذ ست عشرة سنة إلا شبعة طرحتها من ساعتي قال الكرابيسي سمعته يقول يكره جل أن يقول قال الرسول لكن يقول قال رسول الله وكان له اليد الطولي في السخاء قدم سن صنعاء إلى مكة بعشرة آلاف دينار فما برح من مجلس سلام الناس عليه حتى فرقها كلها وسقط سوطه فناوله إنسان فأمؤر غلامه بإعطائه ما معه من الدنانير فكانت سبعة أو تسعة وانقطع شسع نعله فأصلحه له رجل فقال يا ربيع أمكع من نففتنا شيء قلت سبعة دنانير قال ادفعها إليه وقال المزني ما رأيت أكرم منه خرجت معه ليلة العيد من المسجد وأنا أذاكره في مسألة حتى أتيت باب داره فأتاه غلام بكيس وقال مولاي يقرئك السلام ويقول لك خذ هذا الكيس فإنه لك هدية وعينا المنة فأخذه منه فأتاه رجل فقال يا أبا عبد الله ولدت امرأتي الساعة وليس عندي شيء فدفع إليه الكيس وصعد وليس معه شيء وكان يأكل شهوة أصحابه وركب حماره واحمد يمشي بجانبه ويذاكره فبلغ ذلك يحيى بن معين فعتب أحمد فأرسل له ولو كنت بالجانب الآخر من حماره لكان خيرا لك وكانت له المعرفة التامة بالرمي حتى يصيب عشرة من عشرة وبالفروسية حتى يأخذ بأذنه وأذن الفرس في شدة عدوه وروي أنه مسع قارئا يقرأ هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون المرسلات فتغير الشافعي وراتعد وخر مغشيا عليه فلما أفاق قال اللهم إني أعوذ بك من مقام الكذابين ومن إعراض الجاهلين هب لي من رحمتك وجللني بسترك واعف عني بكرمك ولا تكلني إلى غيرك ولا تقنطني من خيرك ومن كلامه لو لم يكن العلماء أولياء فليس الله ولي ما اتخذ الله وليا جاهلا قال المزني دخلت عليه في مرض موته فقلت له كيف أصحبت فقال أصبحت من الدنيا راحلا ولإخواني مفارقا ولكأس المنية شاربا ولسوء أعمالي ملاقيا وعلى الله ورادا فلا أدري روحي تصير إلى الجنة فأهنيها أو إلى النار فأعزيها ثم بكى وأنشأ يقول ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي جعلت رجائي نحو عفوك سلما تعاظمني ذنبي فلما قرنته بعفوك ربي كان عفوك أعظما توفي آخر يوم من رجب ليلة الخمس أو ليلة الجمعة وكان قد صلى المغرب سنة أربع ومائتين وقبره بقرافه مصر وعاش أربعا وخمسين سنة
وأبي عبد الله أحمد بن حنبل وفي نسخة صحيحة أحمد بن محمد بن حنبل فالنسبة الأولى مجازية الشيباني نسبة إلى قبيلة وهو المروزي ثم البغدادي ولد ببغداد سنة أربع وستين ومائة ومات بها سنة إحدى وأربعين ومائتين وله سبع وسبعون سنة كان إماما في الفقه والحديث والزهد والورع والعبادة وبه عرف الصحيح والسقيم والمجروح من المعدل نشأ ببغداد وطلب العلم وسمع الحديث من شيوخها ثم رحل إلى مكة والكوفة والبصرة والمدينة واليمن والشام والجزيرة وسمع من يزيد بن همام وغيرهم وروى عنه أبناه صالح وعبد الله وابن عمه حنبل بن إسحاق ومحمد بن إسماعيل البخاري ومسلم بن الحجاج النيسابوري وأبو زرعة وأبو داود السجستاني وخلق كثير إلا أن البخاري لم يذكر في صحيحه عنه إلا حديثا واحدا في آخر كتاب الصدقات تعليقا وروى عن أحمد بن الحسن عنه فضاسله كثيرة ومناقبة شهيرة وهو أحد المجتهدين المعمول بقوله ورأية ومذهبه في كثير من البلاد قال أبو زرعة كان أحمد يحفظ ألف ألف حديث فقيل له ما يدريك قال ذاكرته فأخذت عليه الأبواب وقال أيضا حزرت كتبه اثني عشر حملا أو عدلا كل ذلك كان يحفظه عن ظهر قلبه وقال أبو داود السجساني كأن مجالسة أحمد بن حنبل مجالسة الآخرة لا يذكر فيها شيء من أمر الدنيا وقال محمد بن موسى حمل إلى الحسن بن عبد العزيز ميراثه من مصر مائة ألف دينار فحمل إلى أحمد بن حنبل ثلاثة أكياس في كل كيس ألف دينار فقال يا أبا عبد الله هذا من ميراث حلال فخذها واستعن بها على عائلتك قال لا حاجة لي فيها أنا في كفاية فردها ولم يقبل منها شيئا وقال عبد الله بن أحمد كنت أسمع أبي كثيرا يقول في دبر صلاته اللهم كما صنت وجهي عن السجود لغيرك فصن وجهي عن المسألة لغيرك وقال ميمون بن الأصبغ كنت ببغداد فسمت ضجة فقلت ما هذا فقالوا أحمد بن حنبل يمتحن فدخلت فلما ضرب سوطأ قال بسم الله فلما ضرب الثاني لا حول ولا قوة إلا بالله فلما ضرب الثالث قال القرآن كلام الله غير مخلوق فلما ضرب الرابع قال لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا التوبة فضرب تسعة وعشرين سوطأ وكانت تكة أحمد حاشية ثوب فانقطعت فنزل السروال إلى عانته فرمى أحمد طرفه إلى السماء فحرك شفيته فما كان بأسرع من ارتقاء السروال ولم ينزل فدخلت عليه بعد سبعة أيام فقلت يا أبا عبد الله رأيتك تحرك سفتيك فأي شيء قلت قال قلت اللهم إني أسألك باسمك الذي ملأت به العرش إن كنت تعلم أني على الصواب فلا تهتك لي سترا وقال أحمد بن محمد الكندي رأيت أحمد بن حنبل في النوم فقلت ما صنع الله بك قال غفر لي ثم قال يا أحمد ضربت في قال قلت نعم يا رب قال يا أحمد هذا وجهي فانظر إليه فقد أبحتك النظر إليه روي أنه أرسل الشافعي إلى بغداد يطلب قميصه الذي ضرب فيه فأرسله إليه فغسله الشافعي وشرب ماءه وهذا من أجل مناقبه قال ولده صالح إنه حج خمس
حجج ثلاثا منها راجلا وكثيرا ما كان يتأدم بالخل قال أبو زرعة بلغني أن المتوكل أمر أن يمسح الموضع الذي وقف الناس فيه للصلاة عليه فبلغ مقام ألفي ألف وخمسمائة ألف وأسلم يوم وفاته عشرون ألفا وقبره ظاهر ببغداد يزار ويتبرك به وكشف لما دفن بجنبه بعض الأشراف بعد موته بمائتين وثلاثين سنة فوجد كفنه صحيحا لم يبل وجثته لم تتغير تنبيه اعترض على ابن الصلاح تفضيل كتب السنن على مسند أحمد فإنه أكبر المسانيد وأحسنها فإنه لم يدخل فيه إلا ما يحتج به مع كونه اختصره من أكثر من سبعمائة ألف حديث وخمسين ألفا وقال ما اختلف المسلمون فيه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فارجعوا فيه إلى المسند فإن وجدتموه فحسن وإلا فليس بحجة ومن ثم بالغ بعضهم فاطلق الصحة على كل ما فيه والحق أن فيه أحاديث وإلا فليس بحجة ومن ثم بالغ بعضهم فأطلق الصحة على كل ما فيه والحق أن فيه أحاديث كثيرة ضعيفة وبعضها أشد في الضعيف من بعض حتى إن ابن الجوزي قد أدخل كثيرا منها في موضوعاته لكن تعقبه في بعضها بعضهم وفي سائرها شيخ الإسلام ابن حجر العسقلاني وحقق نفي الوضع عن جميعها كالسنن الأربعة قال وليست الأحاديث الزائدة فيه على ما في الصحيحين بأكثر ضعفا من الأحاديث الزائدة في سنن أبي داود والترمذي عليهما وبالجملة فالسبيل واحد لمن أراد الاحتجاج بحديث من السنن لا سيما سنن ابن ماجه ومصنف ابن أبي شيبة وعبد الرزاق مما الأمر فيه أشد أو بحديث من المسانيد لأن هذه كلها لم يشترط جامعوها الصحة والحسن وتلك السبيل أن المحتج إن كان أهلا للنقل والتصحيح فليس له أن يحتج بشيء من القسمين حتى يحبط به وإن لم يكن أهلا لذلك فإن وجد أهلا لتصحيح أو تحسين قلده وإلا فلا يقدم على الاحتجاج فيكون كحاطب ليل فلعله يحتج بالباطل وهو لا يشعر وأبي عيسى قيل بكره هذه التكينة محمد بن عيسى الترمذي بكسر التاء والميم وبضمهما وبفتح التاء وكسر الميم مع الذال المعجمة نسبة لمدينة قديمة على طرف وحيحون نهر بلج الإمام الحجة الأوحد الثقة الحافظ المتقن أخذ عن البخاري وقتيبة بن سعيد ومحمود بن غيلان ومحمد بن بشار وأحمد بن منيع ومحمد بن المثنى وسفيان بن وكيع وغيرهم وأخذ عنه خلق كثير وله تصانيف كثيرة في علم الحديث منها الشمائل وهذا كتابه الصحيح أحسن الكتب وأحسنها ترتيبا وأقلها تكرارا وفيه ما ليس في غيره من ذكر المذاهب ووجوه الاستدلال وتبيين أنواع من الصحيح والحسن والغريب وفيه جرح وتعديل وفي آخره كتاب العلل وقد جمع فيه فوائد حسنة لا يخفى قدرها على وقف عليها ولذا قيل هو كاف للمجتهد
ومغن للمقلد بل قال أبو إسماعيل الهروي هو عندي أنفع من الصحيحين لأن كل أحد يصل للفائدة منه وهما لا يصل إليها منهما إلا العغالم المتبحر وقول ابن حزم إنه مجهول كذب منه قال عرضت هذا الكتاب يعني سننه على علماء الحجاز والعراق وخراسان فرضوا به ومن كان في بيته فإنما في بيته نبي يتكلم نعم عنده نوع تساهل في التصحيح ولا يضره فقد حكم بالحسن مع وجودا الانقطاع في أحاديث من سننه وحسن فيها بعض ما انفرد رواته به كما صرح هو به فإنه يورد الحديث ثم يقول عقبة إنه حسن غريب أو حسن صحيح غيريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه لكن أجبيب عنه بأنه هذا اصطلاح جديد ولا مشاخه في الإصطلاح وقد أطلق الحاكم والخطيب الصحة على جميع ما في سنن الترمذي توفي بترمذ سنة تسع وسبعين ومائتين وأعلى أسانيده ما يكون واسطتان بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم وله حديث واحد في سننه بهذا الطريق وهو يأتي على الناس زمان الصابر فيهم على دينه كالقابض على الجمر فإسناده أقرب من إسناد البخاري ومسلم وأبي داود فإن لهم ثلاثيات وذكر في جامعة بسنده هذا الحديث وهو يا علي لا يحل لأحد أن يجنب في هذا المسجد غيري وغيرك ثم قال وهذا حديث حسن غريب وقد سمعه مني البخاري أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني بكسر السنن الأولى وتفتح وبكسر الجيم سكون السين الثانية معرب سيستان من نواحي هراة من بلاد خراسان ولد سنة ثنتين ومائتين وتوفي بالبصرة سنة خمس وسبعين ومائتين وهو الإمام الحافظ الحجة سكن البصرة وقدم بغداد مرارا فروى سننه بها ونقله أهلها عنه وعرضه على أحمد فاستجاده واستحسنه سمع أحمد ويحيى بن معين والقعنبي وسليمان بن حرب وقتيبة وخلائق لا يحصون وروى عنه النسائي وغيره قال جمع ألين الحديث لأبي داود كما ألين الحديث لداود وكان يقول كتبت عن رسول صلى الله عليه وسلم خمسمائة ألف حديث انتخبت منها ما ضمنته كتاب السنن جمعت فيه أربعة آلاف حديث وثمانمائة حديث ذكرت الصحيح وما يشبه ويقاربه ويكفي الإنسان لدينه من ذلك أربعة أحاديث أحدها قوله عليه الصلاة والسلام إنما الأعمال بالنيات والثاني قوله عليه الصلاة والسلام من حسن بإسلام المرء تركه ما لا يعنيه والثالث قوله عليه الصلاة والسلام لا يكون المؤمن مؤمنا حتى يرضى لأخيه ما يرضى لنفسه
والرابع إن الحلال بين والحرام بين الحديث ومن أشعار الشافعي عمدة الدين عندنا كلمات أربع قالهن خير البرية اتق السيئات وازهد ودع ما ليس بعينك واعمل بنيه فكأنه أراد بقوله أزهد حديث الأربعين ازهد في الدنيا يحبك الله وزاهد فيما عند الناس يحبك الناس قال الخطابي شارحة لم يصنف في علم الدين مثله وهو أحسن وضعا وأكثر فقها من الصحيحين وقال أبو داود ما ذكرت فيه حديثا أجمع الناس على تركه وقال ابن الأعرابي من عنده القرآن وكتاب أبي داود لم يحتج معهما إلى شيء من العلم البتة وقال الناجي كتاب الله أصل الإسلام وكتاب أبي داود عبد الإسلام ومن ثم صرح حجة الإسلام الغزالي باكتفاء المجتهد به في الأحاديث وتبعه أئمة الشافعية على ذلك وقال النووي ينبغي للمشتغل بالفقه ولغيره الاعتناء به فإن معظم أحاديث الأحكام التي يحتج بها فيه مع سهولة تناوله وكان له كم واسع وكم ضيق فقيل له ما هذا فقال أما الواسع فلكتب وأما الضيق فللاحتياح إليه وفضائله ومناقبه كثيرة وكان في أعلى درجة من النسك والعفاف والصلاح والورع قال المندري ما سكت عليه لا ينزل عن درجة الحسن وقال النوي ما رواه في سننه ولم يذكر ضعفه هو عنده صحيح أو حسن وقال ابن عبد البر ما سكت عليه صحيح عنده سيما إن لم يكن في الباب غيره وأطلق ابن منده وابن السكن الصحة على جميع ما في سنن أبي داود ووافقهما الحاكم وأبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي بفتح النون والمد كما في جامع الأصول واقتصر عليه المصنف وبالقصر كما في طبقات الفقهاء نسبة إلى بلد بخراسان قريب مرو وأما ما ذكره ابن حجر أنه من كور نيسابور أو من أرض فارس فغير صحيح أحد الأئمة الحفاظ سمع من إسحاق بن راهويه وسليمان بن أشعث ومحمود بن غيلان وقتيبة بن سعيد ومحمد بن بشار وعلي بن حجر وأبي داود وآخرين ببلاد كثيرة وأقاليم متعددة وأخذ عنه خلق كثيرون كالطبراني والطحاوي وابن السني ودخل دمشق فسئل عن معاوية ففضل عليه عليا فأخرج من المسجد وحمل إلى الرملة ومات بها وقيل إلى مكة ودفن بها بين الصفا والمروة وجرى عليه بعض الحفاظ فقال مات ضربا بالأرجل من أهل الشام حين
أجابهم لما سألوه عن فضائل معاوية ليرجحوه بها على علي بقوله ألا يرضى معاوية رأسا برأس حتى يفضل وفي رواية ما أعرفه ألا أشبع الله بطنه وما زالوا يضربونه بأرجلهم حتى أخرج من المسجد ثم حمل إلى مكة فمات مقتولا شهيدا وقال الدار قطني إن ذلك كان بالرملة وكذا قال العبدري إنه مات بالرملة بمدينة فلسطين ودفن بالبيت المقدس وسنه ثمان وثمانون سنة فما قاله الذهبي ومن تبعه وجزم المصنف بأنه مات بمكة سنة ثلاث وثلثمائة وهو مدفون بها ونقل التاج السبكي عن شيخه الحافظ الذهبي ووالده الشيخ الإمام السبكي أن النسائي أحفظ من مسلم صاحب الصحيح وأن سننه أقل السنن بعد الصحيحين حديثا ضعيفا بل قال بعض الشيوخ إنه أشرف المصنفات كلها وما وضع في الإسلام مثله وقد قال ابن منده وابن السكن وأبو علي النيسابوري وأبو أحمد بن عدي والخطيب والدار قطني كل ما فيه صحيح لكن فيه تساهل صريح وشذ بعض المغاربة فضله على كتاب البخاري ولعله لبعض الحيثيات الخارجة عن كمال الصحة والله تعالى أعلم قال السيد جمال الدين صنف في أول الأمر كتابا يقال له السنن الكبيرة للنسائي وهو كتاب جليل لم يكتب مثله في جمع طرق الحديث وبيان مخرجه وبعده اختصره وسماه بالمجتنى بالنون وسبب اختصاره أن أحدا من أمراء زمانه سأله إن جميع أحاديث كتابك صحيح فقال في جوابه لا فأمره الأمير بتجريد الصحاح وكتابه صحيح مجرد فانتخب منه المجتنى وكل حديث تكلم في إسناده أسقطه منه فإذا أطلق المحدثون بقولهم رواه النسائي فمرادهم هذا المختصر المسمى بالمجتنى لا الكتاب الكبير وكذا إذا قال الكتب الخمسة أو الأصول الخمسة فهي البخاري ومسلم وسنن أبي داود وجامع الترمذي ومجتنى النسائي أبي عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه بإثبات ألف ابن خطأ فإنه بدل من ابن يزيد ففي القاموس ماجة لقب والد محمد بن يزيد صاحب السنن لأجده وفي شرح الأربعين إن ماجة اسم أمه القزويني بفتح القاف نسبة إلى بلد معروف وهو الإمام الحافظ صاحب السنن التي كمل به الكتب الستة والسنن الأربعة بعد الصحيحين قال الحافظ ابن حجر وأول من أضاف ابن ماجة إلى الخمسة الفضل بن طاهر حيث أدرجه معها في أطرافه وكذا في شروط الأئمة الستة ثم الحافظ عبد الغني في كتاب الإكمال في أسماء الرجال الذي هذبه الحافظ المزي وقدموه على الموطأ لكثرة زوائده على الخمسة بخلاف الموطأ وهو كما قاله ابن الأثير كتاب مفيد قوي التبويب في الفقه لكن فيه أحاديث ضعيفة جدا بل منكرة بل نقل عن الحافظ المزي أن الغالب فيما انفرد به الضعف ولذا لم يضفه غير واحد إلى الخمسة بل جعلوا السادس الموطأ منهم رزين والمجد ابن الأثير وقال العسقلاني ينبغي أن يجعل مسند الدارمي
سادسا للخمسة بدله فإنه قليل الرجال الضعفاء نادر الأحاديث المنكرة والشاذة وإن كان فيه أحاديث مرسلة وموقوفة فهو مع ذلك أولى منه توفي في رمضان سنة ثلاث وسبعين ومائيتن وله من العمر أربع وستون سنة سمع أصحاب مالك و الليث وروى عنه أبو الحسن القطان وخلق سواه وله ثلاثيات من طريق جبارة بن المغلس وله حديث في فضل قزوين أورده في سننه وهو منكر بل موضوع ولذا طعن فيه وفي كتابه وأبي محمد عبد الله بن عبد الرحمن السمرقندي التميمي الدارمي بكسر الراء نسبة إلى دارم بن مالك بطن كبير من تميم وهو الإمام الحافظ عالم سمرقند صنف التفسير والجامع ومسنده المشهور وهو على الأبواب لا الصحابة خلافا لمن وهم فيه روى عن البخاري ويزيد ابن هارون والنضر بن شميل وغيرهم وقال رأيت العلماء بالحرمين والحجاز والشام والعراق فما رأيت فيهم أجمع من محمد بن إسماعيل البخاري وروى عنه مسلم وأبو داود والترمذي وغيرهم قال أبو حاتم هو إمام أهل زمانه توفي يوم التروية ودفن يوم عرفة سنة خمس وخمسين ومائتين وولد سنة إحدى وثمانين ومائة وله من العمر أربع وسبعون سنة وله خمسة عشر حديثا هي ثلاثيات وأبي الحسن علي بن عمر الدار قطني بفتح الراء ويسكن وبضم القاف وسكون الطاء بعده نون نسبة لدار القطن وكانت محله كبيرة ببغداد وهو إمام عصره وحافظ دهره صاحب السنن والعلل وغيرهما انتهى إليه علم الأثر والمعرفة بعلل الحديث وأسماء الرجال وأحوال الرواة مع الصدق والأمانة والثقة والعدالة وصحة الاعتقاد والتضلع بعلوم شتى كالقراءة وله فيها كتاب لم يسبق إلى مثله أخذ عنه الأئمة كأبي نعيم والحاكم أبي عبد الله النيسابوري والبرقاني والشيخ أبي حامد الإسفراييني والقاضي أبي الطيب الطبري والجوهري وغيرهم ولد سنة خمس وثلثمائة ومات ببغداد خمس وثمانين وثلثمانة وأبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي نسبة لبيهق على وزن صيقل بلد قرب نيسابور وهو الإمام الجليل الحاقظ الفقيه الأصولي الزاهد الورع وهو أكبر أصحاب الحاكم أبي عبد الله وقد أخذ عن ابن فورك وأبي عبد الرحمن السلمي روي أنه اجتمع جمع كثير من العلماء في مجلس الحاكم أبي عبد الله وقد ترك الحاكم راويا من إسناد حديث فنبه عليه البيهقي فتغير الحاكم فقال البيهقي لا بد من الرجوع إلى الأصل فحضر الأصل فكان كما قال البيهقي رحل إلى الحجاز والعراق ثم اشتغل بالتصنيف بعد أن صار واحد زمانه وفارس ميدانه وألف كتابه السنن الكبير وكتاب المبسوط في نصوص الشافعي وكتاب معرفة السنن والآثار وقيل وصل تصانيفه إلى ألف جزء ومن تصانيفه دلائل النبوة وكتاب البعث والنشور
وكتاب الآداب وكتاب فضائل الصحابة وفضائل الأوقات وكتاب شعب الإيمان وكتاب الخلافيات وكان له غاية الإنصاف في المناظرة والمباحثة وكان على سيرة العلماء قانعا من الدنيا باليسير متجملا في زهده وورعه صائم الدهر قبل موته بثلاثين سنة قال إمام الحرمين ما من شافعي إلا وللشافعي في عنقه منه إلا البيهقي فإنه له على الشافعي منه لتصانيفه في نصرة مذهبه وأقاويله توفي بنيسابور سنة ثمان وخمسين وأربعمائة وحمل تابوته إلى قرية من ناحية بيهق وهل من العمر أربع وسبعون سنة قيل مولده أربع وثمانين وثلاثمائة وأبي الحسن رزين بفتح الراء وكسر الزاي ابن معاوية العبدري بفتح العين المهملة وسكون الموحدة وفتح الدال المهملة وبالراء المخففة منسوب إلى عبد الدار بن قصي بطن من قريش وهو الحافظ الجليل صاحب كتاب التجريد في الجمع بين الصحاح مات بعد العشرين وخمسمائة وغيرهم بالجر عطفا على أبي عبد الله وقيل بالرفع عطفا على مثل وقليل ما ما زائدة إبهامية تزيد الشيوع والمبالغة في القلة هو أي غيرهم الإفراد للفظ غير هم وهو مبتدأ خبره قليل ونظيره إلا الدين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم ص فلما انتهى الكلام على آخر الرجال المذكورين والأئمة المشهورين سنح بالخاطر الفاتر ما ذكره السادات الصوفية أرباب الهداية إن النهاية هي الرجوع إلى البداية فأنتج أن أختم ذكرهم بمناقب الإمام الأعظم والهمام الأقدم ليكون كمسك الختام وقد ذكره المؤلف أيضا في أسماء رجاله راجيا حصول بركة كماله لكن بعد ذكر الإمام مالك وأورد اعتذارا عن ذلك بقوله وقد بدأنا بذكره لأنه المقدم زمانا وقدرا ومعرفة وعلما قلت كل ذلك بالنسبة إلى إمامنا غير صحيح أما تقدم زمان أبي حنيفة عليه فصريح إذ ولد مالك سنة خمس وتسعين وولد أبو حنيفة سنة ثمانين وأما تقدم قدره على أبي حنيفة فمردود لأنه من أتباع التابعين وإمامنا من التابعين كما ذكره السيوطي وغيره وقد ورد في الحديث النبوي خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم وأما معرفته فمعروفة لأنها عمت الخلق شرقا وغربا سيما في بلاد ما وراء النهر وولاية الهند والروم فإنهم لا يعرفون إماما غيره ولا يعلمون مذهبا سوى مذهبه وبالجملة فأتباعه أكثر من أتباع جميع الأئمة من علماء الأمة كما أن أتباع النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من أتباع سائر الأنبياء وقد ورد إنهم ثلثا أهل الجنة والحنفية أيضا تجيء ثلثي المؤمنين والله أعلم وأما علمه فيكفي ما قال الشافعي في حقه الخلق كلهم عيال أبي حنيفة في الفقه والعذر في كثرة استغاله بالأمور الفقهية من المسائل الفرعية والدلائل الأصولية أنه رأى أنه الأهم واحتياج الناس إليه أتم وهو ي الحقيقة اشتغال بالمعنى المعبر عنه بالدراية وهو مفضل على التعليق بالمبنى الذي يقال له الرواية وبهذا فاق على أقرانه من المحدثين وغيرهم وقد سأله الأوزاعي عن مسائل وأراد البحث معه بوسائل
فأجاب على وجه الصواب فقال له الأوزاعي من أين هذا الجواب فقال من الأحاديث التبي رويتموها ومن الأخبار والآثار التي نقلتموها وبين له وجه دلالاتها وطريق استناطاتها فأتصف الأوزاعي ولم يتسعف فقال نحن العطارون وأنتم الأطباء أي العارفون بالداء والدواء وأيضا كان عنده أن نقل الحديث الشريف لا يجوز إلا باللفظ دون المعنى فهذا الاعتبار يقل التحديث بالمبني مع أن له مسانيد متعددة وأسانيد معتمدة يعرفها أهل الخبرة ويحكمون عليه بأنه من أهل البصرة ثم يدل على علو سنده أنه روى الشافعي في مسنده عن محمد بن الحسن عن أبي يوسف عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما لما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الولاء لحمة كلحمة النسب لا يباع ولا يوهب كذا ذكره الشمني شارح النقاية في فصل الولاء وذكر الإمام النووي في تهذيب الأسماء نقلا عن الخطيب البغدادي إن الإمام الشافعي روى عن محمد بن الحسن وقال الفاضل تلميذ الإمام ابن الهمام في شرح التحرير ذكر أصحاب الشافعي وغيرهم أنه قال الشافعي حملت عن محمد ابن الحسن وقرئ بحثي كبتا وقال أبو إسحاق في الطبقات روى الربيع قال كتب الشافعي إلى محمد بن الحسن وقد طلب منه كتبا ينسخها فأخرها عنه قل للذي لم ترعينا من رآه مثله ومن كان من رآه قد رأى من قبله العلم ينهى أهل أن يمنعوه أهله لعله يبذله لأهله لعله وفي الحقائق شرح المنظمومة قال الشافعي الحمد لله الذي أعانني على الفقه بمحمد ابن الحسن انتهى محمد له الرواية عن أبي حنيفة ومالك كما يدل موطأ الإمام محمد ولما ذكر شيخنا العالم العلامة والبحر الفهامة شيخ الإسلام ومفتي الأنام صاحب التصانيف الكثيرة والتآليف الشهيرة مولانا وسيدنا الشيخ شهاب الدين بن حجر المكي مناقب الإمام مالك وأحمد بن حنبل والشافعي في شرح المشكأة قال تعين علينا إذ ذكرنا تراجم هؤلاء الأئمة الثلاثة أن نختم برابعهم المقدم عليهم تبركا به لعلو مرتبته ووفور علمه وورعة وزهده وتحليته بالعلوم الباطنية فضلا عن الظاهره بما فاق فيه أهل عصره وفاز بحسن الثناء عليه وإذاعة ذكره وهو الإمام الأعظم ففيه أهل العراق ومن أكابر التابعين أبو حنيفة النعمان بن ثابت بن زوطي بضم الزاي وفتح الطاء ابن ماه مولى تيم الله بن ثعلبة
الكوفي وروى الخطيب بإسناده عن حفيده عمر بن حماد بن أبي حنيفة أن ثابتا ولد على الإسلام وزوطي كان مملوكا لبني تيم فأعتقوه فصار ولاؤه لهم وأنكر إسماعيل أخو عمر المذكور حفيدة أيضا ابن حماد بن أبي حنيفة ذلك وقال إن والد ثابت عن أبناء فارس وأنهم أحرار والله ما وقع علينا رق قط ولد جدي سنة ثمانين وذهب بثابت أبيه إلى علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وهو صغير فدعا له بالبركة فيه وفي ذريته ونحن نرجو من الله أن يكون ذلك قد استجيب من علي فينا ه وهو كما رجا فقد بارك الله في أبي حنيفة بركة لا نهاية لأقصاها ولا غاية لمنتهاها وبارك في أتباعه فكثروا في سائر الأقطار وظهر عليهم من بكرة صدقه وإخلاصه ما اشتهر به في سائر الأمصار أخذ الفقه عن حماد بن أبي سليمان وأدرك أربعة من الصحابة بل ثمانية منهم أنس وعبد الله بن أبي أوفى وسهل بن سعد وأبو الطفيل وقيل ولم يلق أحدا منهم قلت لكن من حفظ حجة على من لم يحفظ والمثبت مقدم على الناقي وسمع من عطاء وأهل طبقته روى عنه عبد الله بن المبارك ووكيع بن الجراح وخلائق لا يحصون وهو من أهل الكوفة وكان يزيد بن هبيرة واليا على العراق لبني أمية فكلمه في أن يلي له قضاء الكوفة فأبى عليه فضربه مائة سوط في كل يوم عشرة أسواط وهو مصمم على الامتناع فلما رأى ذلك منه خلى سبيله وكان الإمام أحمد إذا ذكر ضربه على القضاء وامتناعه منه بكى وترحم عليه قلت وكأنه اقتدى به في تحمل ضربه في مسألة خلق القرآن واستدعاه المنصور أبو جعفر أمير المؤمنين من الكوفة إلى بغداد ليوليه القضاء فأبى فحلق عليه ليفعلن فحلف أبو حنيفة أنه لا يفعل وتكر هذا منهما فقال الربيع الحاجب ألا ترى أمير المؤمنين يحلف قال أبو حنيفة أمير المؤمنين على كفارة إيمانه أقدر مني على كفارة أيماني فأمر به إلى السجن في الوقت وفي رواية دعاه أبو جعفر إلى القضاء فأبى فحبسه ثم دعا به فقال أترغب عما نحن فيه فقال أصلح الله أمير المؤمنين لا أصلح للقضاء فقال له كذبت ثم عرض عليه فقال أبو حينفة قد حكم علي أمير المؤمنين أني لا أصلح للقضاء لأنه نسبي إلى الكذب فإن كنت كاذبا فلا أصلح وإن كنت صادقا فقد أخبرت أني لا أصلح فرده إلى السجن فقال الربيع بن يونس رأيت المنصور يجادله في أمر القضاء وهو يقول اتق الله ولا تشرك في أمانتك إلا من يخاف الله والله ما أنا مأمون الرضا فكيف أكون مأمون الغضب فلا أصلح لذلك فقال له كذبت أنت تصلح فقال قد حكمت على نفسك كيف يحل لك أن تولي قاضيا على أمانتك وهو كذاب وذكر أبو حنيفة عند ابن المبارك فقال أتذكرون رجلا عرضت عليه الدنيا بحذاقيرها ففر منها وكان حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح يعرف بريح الطيب إذا قيل كثير الكرم حسن المواساة لإخوانه ربعة أحسن الناس منطقا وأحلاهم نعمة قال قدمت البصرة فظنت أني لا أسال عن شيء إلا أجبت عنه فسألوني عن أشياء لم يكن عندي فيها جواب فجعلت على نفسي أن لا أفارق حمادا حتى يموت فصحبته ثماني عشرة سنة ثم ما صليت صلاة منذ مات إلا استغفرت له قبل أبوي أو قال مع والدي وإني لأستغفر لمن تعلمت منه
علما أو تعلم مني علما قال دخلت على المنصور فقال عمن أخذت العلم فقلت عن حماد عن إبراهيم النخعي عن عمر وعلي وابن مسعود وابن عباس فقال المنصور بخ بخ استوفيت يا أبا حنيفة ورأى أبو حنيفة في النوم كأنه نبش قبر النبي صلى الله عليه وسلم فبعث من سأل محمد ابن سيرين فقال صاحب هذا الرؤيا ولم يجب عنها ثم سأله الثانية فقال مثل ذلك ثم سألت الثالثة فقال صاحب هذه الرؤيا يبرز علما لم يسبقه أحد إليه ممن قبله وقال ابن المبارك كان أبو حنيفة آية فقيل له في الخير أم في الشر قال اسكت يا هذا فإنه يقال إنه آية في الخير وغاية في الشر ثم تلا وجعلنا ابن مريم وأمه آية المؤمنون وقال كان يوما في الجامع فوقعت حية فسقطت في حجرة فهرب الناس وهو لم يزد على نفضها وجلس مكانه وكان خزازا يبيع الخز ودكانه معروف في دار عمرو بن حريث ومات أخو سفيان الثوري فاجمتع إليه الناس فعزائه فجاء أبو حنيفة فقام إ ليه سفيان وأكرمه وأقعده في مكانه وقعد بين يديه ولما تفرق الناس قال أصحاب سفيان رأيناك فعلت شيئا عجيبا قال هذا رجل من العلم بمكان فإنه لم أقم لعلمه قمت لسنه وإن لم أقم لسنة قمت حتى أيقظهم أبو حنيفة بما فتقه وبينه وقال الشافعي الناس عيال أبي حنيفة في الفقه وفي رواية من أراد أن يتبحر في الفقه فليلزم أبا حنيفة وأصحابه وقال جعفر بن الربيع أقمت على أبي حنيفة خمس سنين فما رأيت أطول صمتا منه فإذا سئل عن شيء من الفقه سال كالوادي وقال ابن عيينة ما قدم مكة في وقتنا رجل أكثر صلاة منه وقال يحيى بن أيوب الزاهد كان أبو حنيفة لا ينام في الليل وقال أبو عاصم كان يسمي الوتد لكثرة صلاته وقال زفر كان يحيى الليل كله بركعة يقرأ فيها القرآن وقال أسد بن عمرو صلى أبو حنيفة صلاة الفجر بوضوء العشاء أربعين سنة وكان عامة الليل يقرأ القرآن في ركعة وكان يسمع بكاؤه حتى يرحكم عليه جيرانه وحفظ عليه أنه ختم القرآن في الموضع الذي توفي فيه سبعة آلاف ختمة ولما غسله الحسين بن عمارة قال له غفر الله لك لم تفطر منذ ثلاثين سنة ولم تتوسد يمينك في الليل منذ أربعين سنة ولقد أتعبت من بعدك وقال ابن المبارك إنه صلى الخمس بوضوء واحد خمسا وأربعين سنة وكان يجمع القرآن في ركعتين وقال زائدة صليت معه في مسجده العشاء وخرج الناس ولم يعلم إني في المسجد فأردت أن أسأله مسأل فقام وافتتح الصلاة فقرأ حتى بلغ هذه الآية فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم الطور فلم يزل يرددها حتى أذن المؤذن للصبح وأنا أنتظره وقال القاسم بن معن قام أبو حنيفة ليلة بهذه الآية بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر القمر يرددها ويبكي ويتضرع وقال وكيع كان أبو حنيفة قد جعل على نفسه أن لا يحلف باله في عرض كلامه إلا تصدق بدرهم فحلف فتصدق به ثم جعل إنه حلف أن يتصدق بدينار
فكان إذا حلف صادقا في عرض كلامه تصدق بدينار وكان إذا أنفق على عياله نفقة تصدق بمثلها وكان إذا اكتسى ثوبا جديدا كسى بقدر ثمنه الشيزخ من العلماء وكان إذا وضع بين يديه الطعام أخذ منه ضعف ما يأكله فيجعله على الخبز ثم يعطيه الفقير ووهب لمعلم ابنه حماد خمسمائة درهم لما ختم وجاءته امرأة تشتري منه ثوب خز فأخرج لها ثوبا فقالت إنها ضعيفعة وإنها أمامنه فبعنيه بما يقوم عليك فقال خذيه بأربعة دراهم فقالت لا تسخر بي وأنا عجوز كبيرة فقال إني اشتريت ثوبين فبعث أحدهما برأس المال إلا أربعة دراهم فبقي هذا بأربعة دراهم وقال ابن المبارك للثوري ما أبعد أبا حنيفة عن الغيبة ما سمعته يغتاب عدوا له قط قال والله إنه أعقل من أن يسلط على حسناته ما يذهب بها وقال إسماعيل حفيده كان عندنا رافضي له بغلان سمى أحدهما أبا بكر والآخر عمر فحرمه أحدهما فقتله فقيل لجدي فقال ما قتله إلا المسمى بعمر فكان كذلك قلت لأنه مظهر الجلال وأبو بكر مظهر الجمال وكان بعض جماعة المنصور ببغضه فما رآنه عند المنصور قال اليوم أقتله ثم قال له إن أمير المؤمنين يأمرنا بضرب عنق الرجل ما ندري ما هو فهل لنا قتله قال أمير المؤمنين يأمر بالحق أو بالباطل قال بالحق قال الزم الحق حيث قال ولا تسأل عنه ثم قال لمن قرب منه إن هذا أراد أن يوبقني فربطته ولد سنة ثمانين من الهجرة وتوفي ببغداد وقيل في السجن على أن يلي القضاء سنة خمسين على المشهور أو إحدى أو ثلاث وخمسين ومائة في رجب ببغداد وقبره بها يزار ويتبرك به ومن ورعة أنه أراد شراء أمة يتسرى بها فاستمر عشرين سنة يفتش السبايا ويسأل عنهن حتى اطمأنت نفسه بشراء واحدة ومن كراماته أن أبا يوسف هرب صغيرا إليه من أمه ليتمه وفقره فجاءت أمه للإمام وقالت له أنت الذي أفسدت ولدي فأعطاه لها ثم هرب إليه وتكرر منه ذلك فقال له الإمام وهو على تلك الحالة الضيقة كيف بك وأنت تأكل الفالوذج في صحن الفيروزج فلما توفي ووصل أبو يوسف عند الرشيد ما وصل دعاه الرشيد يوما وأخرج له فالوذجا كذلك فضحك أبو يوسف فعجب منه الرشيد فسأله فقال رحم الله أبا حنيفة وقص عليه القصة ه كلام الشيخ ابن حجر ملخصا واكتفينا بكلامه فإنه على المخالفين حجة وفيما نقله للموافقين كفاية لأن المطنب في نعته مقصر والمسهب في منقبته مختصر وقد حكى أن الشافعي سمع رجلا يقع في أبي حنيفة فدعاه وقال يا هذا أتقع في رجل سلم له جميع الناس ثلاثة أرباع الفقه وهو لا يسلم له الربع قال وكيف ذلك
قال الفقه سؤال وجواب وهو الذي تفرد بوضع الأسئلة فسلم له له نصف العلم ثم أجاب عن الكل وخصومه لا يقولون إنه أخطأ في الكل فإذا جعل ما واقفوا فيه مقابلا بما خالفوا فيه سلم له ثلاثة أرباع العلم وبقي الربع مشتركا بين الناس ومما ذكره ابن حجر في مناقبه المسمى بالخيرات الحسان أن الشافعي قال قلت لمالك رأيت أبا حنيفة فقال رأيته رجلا لو كلمك في السارية أن يجعلها ذهبا لقام بحجته ولما دخل الشافعي بغداد زار قبره وصلى عنده ركعتين فلم يرفع يديه في التكبير وفي رواية أن الركعتين كانتا الصبح وأنه لم يقنت فقيل له في ذلك فقال أدبنا مع هذا الإمام أكثر من أن تظهر خلافه بحضرته قال ابن حجر وتلمذ له كبار من الأئمة المتجتدين والعلماء الراسخين عبد الله بن المبارك والليث بن سعد الإمام مالك بن أنس ه ومنهم داود الطائي وإبراهيم ابن أدهم وفضيل بن عياض وغيرهم من أكابر السادة الصوفية رضي الله عنهم أجمعين وما استظل بحائط المديون حين أتاه متقاضيا وتصدق بجميع مال أتى به وكيله إليه لما خلط ثمن ثوب معيب بيع مخفيا قيل وكان المال ثلاثين ألفا وترك لحم الغنم لما فقدت شاة في الكوفة سبع سنين لما قيل إنها أكثر ما تعيش فيه ثم اعلم أن المؤلف لما قال فيما قدمه فأعلمت ما أغفله استشعر اعتراضا بأن الإعلام الحقيق إنما هو بإيراد الإسناد الكلبي ليترتب عليه معرفة رجاله التي يتوقف عليها الحكم بصحة الحديث وحسنه وضعفه وسائر أحواله فاعتذر عن الأشكال فقال وإني إذا نسبت الحديث أي كل حديث إليهم أي إلى بعض الأئمة المذكورين المعروفة كتبهم بأسانيدهم بين العلماء المشهورين كأبي أسندت أي الحديث برجاله إلى النبي صلى الله عليه وسلم أي فيما إذا كان الحديث مرفوعا وهو الغالب وإلى أصحابه إذا كان موقوفا وهو المرفوع حكما لأنهم أي الأئمة قد فرغوا منه أي من الإسناد الكامل بذكرهم قال ابن حجر أي من الإسناد المفهوم من أسندت على حد وأن تعفوا أقرب للتقوى البقرة ه ولا يخفى أن قوله وأن تعفوا بتأويل المصدر مبتدأ خبره أقرب للتقوى والتقدير وعفوكم أقرب للتقوى نحو وأن تصوموا خير لكم البقرة فالصواب أنه على حد اعدلوا هو أقرب للتقوى ثم في أصله على حد وأن تعفوا هو أقرب وهو إما سهو من الكتاب أو وهم من مصنف الكتاب والله أعلم بالصواب وأغنونا بهمزة قطع أي وجعلونا في غنى وكفاية عنه أي عن تحقيق الإسناد من وصله وقطعه ووقفه ورفعه وضعفه وحسنه وصحته ووضعته ومن ثم لزم الأخذ بنص أحدهم على صحة السند أو الحديث أو على حسنة أو أضعفه أو وضعه فعلم من كلام المصنف أنه يجوز نقل الحديث من الكتب المؤلفة المتعمدة التي اشتهرت أو صحت نسبتها لمؤلفيها كالكتب الستة وغيرها من الكتب المؤلفة وسواء في جواز نقله مما ذكر أكان نقله للعمل بمضمونه ولو في الأحكام أو للاحتجاج ولا يشترط تعدد الأصل المنقول منه وما اقتضاه كلام ابن الصلاح من اشتراطه حملوه على الاستحباب والاستظهار ولكن يشترط في ذلك الأصل أن يكون قد قوبل على أصل معتمد مقابلة صحيحة لأنه حينذ يحصل به الثقة التي مدار الاعتماد عليا صحة واحتجاجا نعم نسخ الترمذي مختلفة كثيرا في الحكم على الحديث بل وسنن أبي داود أيضا فلا بد من المقابلة على أصول معتمدة منهما وعلم من كلام المصنف أيضا أنه لا يشترط في النقل من الكتب المعتمدة للعمل والاحتجاج أن يكون له به رواية إلى مؤلفيها ومن ثم قال ابن برهان ذهب الفقهاء كافة إلى أنه لا يتوقف العمل بالحديث على سماعه بل إذا صحت عنده النسخة من السنن جاز له العمل بها وإن لم يسمع وشذ بعض المالكية فقال اتفق العلماء على أنه لا يصح لمسلم أن يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا حتى يكون عنده ذلك القول مرويا ولو على أقل وجود الروايات لقوله عليه الصلاة والسلام من كذب علي متعمدا فلينبوأ مقعده من النار وفي رواية بحذف متعمدا وتبعه الحافظ الزين العراقي فإنه بعد أن قرر أنه يقبح للطالب أن لا يحفظ بإسناده عدة أحاديث يتخلص بها عن كذا وعن كذا قال ويتخلص به من الجرح بنقل ما ليست له به رواية فإنه غير سائغ بإجماع أهل الدراية وانتصر جماعة للأول وقد يجمع بين الإجماعين المتعارضين بحمل الأول على ما إذا نظر في الأصل المعتمد وأخذ منه الحديث للعمل أو الاحتجاج والثاني على ما إذا حدث بأحاديثهما موهما نسبتها إليه قراءة وإسنادا فهذا لا يجوز لما فيه من مزيد التعزيز وبهذا اندفع ما أورد على الثاني من أنه يلزم عليه منع إيراد ما في الصحيحين أو أحدهما لم لا رواية له به وجواز نقل ما له به رواية وإن كان ضعيفا وسردت الكتب والأبواب أي أوردتها ووضعتها متتابعة متوالية كما سردها أي رتبها وعينها الإمام البغوي في المصابيح واقتفيت أي اتبعت أثره بفتحتين وقيل بكسر الهمزة وسكون المثلثة أي طريقة فيها أي الكتب والأبواب من غير تقديم وتأخثر وزيادة عنوان وتغيير فإن ترتيبه على وجه الكمال وتبويبه في غاية من الحسن والجمال ويحتمل أن يكون تأكيدا لكمال المتابعة وتبرئة عما قد يرد على إيراده بعض الكتب والأبواب من وجوه المناسبة وقسمت بالتخفيف كل باب وكذا كل كتاب أي جعلته مقسوما غالبا أي في غالب الأحوال على فصول ثلاثة وقيد الغالبية بمعنى الأكثرية لأنه قد لا يوجد الفصل الثاني أو الثالث أو كلاهما في بعض الأبواب
من الكتاب أولها أي أول الفصول في هذا الكتاب بدل قول البغوي في المصابيح من الصحاح ما أخرجه أي أورده أو أخرجه من بين الأحاديث الشيخان أي بزعم صاحب المصابيح لما سيأتي من قوله وإن عثرت على اختلاف الفصلين أو المراد في الغالب والنادر كالمعدوم أو أحدهما أي أحد الشيخين بزعمه أيضا وهما البخاري ومسلم في اصطلاح المحدثين وأبو يوسف ومحمد عند فقهاء الحنفية والرافعي والنووي عند الشافعية واكتفيت وفي نسخة واكتفى وهو يحتمل المعلوم التفاتأ والمجهول من الماضي والمضارع المتكلم المعروف وهو الأظهر بهما أي بذكرهما في التخريج وإن شرك وصلية لا تطلب جزاء ولا جوابا فيه أي في تخريجه الغير أي غيرهما من المحديثين والمخرجين كبقية الكتب الستة ونحوها لعلو درجتهما أي على سائر المخرجين مع الفرق بينهما في الرواية متعلق بالعلو أي في شرائط إسنادها والتزام صحتها ما لم يلتزمه غيرهما من المحدثين وإن كان غيرهما أعلى مرتبة منهما في علو الإسناد فإن البخاري أخذ عن أحمد بن حنبل وهو أخذ عن الشافعي وهو عن مالك ولذا قال بشر الحافي إن من زينة الدنيا أن يقول الرجل حدثنا مالك كذا وهذا يحتمل أن يكون مدحا للإسناد بمتقضى العلم الظاهر ويحتمل ذما بناء على التصوف الذي مبناه على علم الباطن كما قال بعضهم حدثتا باب من أبواب الدنيا ولكنه محمول على ما إذا كان قصده السمعة وغرضه الرياء ثم أعلم أن الأئمة قد اختلفوا في شرطهما الذي التزماه فإنه لم يصرح واحد منهما به في كتابه والأظهر ما قاله أبو عبد الله الحاكم وصاحبه البيهقي إن شرطهما أن يكون للصحابي المشهور بالرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم روايان فأكثر ثم يكون للتابعي المشهور راويان ثقتان ثم يرويه عنه من أتباع التابعين الحافظ المتقن المشهور وله رواة ثقات من الطبقة الرابعة ثم يكون شيخ البخاري أو مسلم حافظا متقنا مشهورا بالعدالة في روايته وله رواه ثم يتداوله أهل الحديث بالقبول إلى وقتنا هذا كالشهادة على الشهادة وقال شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر العسقلاني وهو وإن انتقض في بعض الصحابة الذين أخرجا لهم فهو معتبر فيمن بعدهم فليس في استثناء الصحابة أصلا من رواية من ليس له إلا راه واحد فقط هأ قيل والحاكم موافق على استنثاء الصحابة فكأنه رجع عن الأول ثم المراد بقوله في مستدركه على شرطهما أو شرط أحدهما عند النووي وابن دقيق العيد والذهبي كابن الصلاح أن يكون رجال ذلك الإسناد بأعيانهم في كتابيهما أو كتاب أحدهما وإلا قال صحيح فحسب ومخالفته لذلك في بعض المواضع تحمل على الذهول هذا وقال السيد جمال الدين لو لم يكتف المصنف بهما وذكر في كل حديث غيرهما ممن رواه كان أولى وأنسب وأحرى وأصوب لأن الحديث وإن كان في أصل الصحة لا يحتاج إلى غيرهما لكن في الترجيح لا يستغنى عن ذكر غيرهما لأن
الحديث الذي رواه الستة مثلا لا شك في ترجيحه على الذي رواه الشيخان أو أحدهما ولم يخرجه غيرهما وثانيها أي ثاني الفصول وهو المعبر عنه في المصابيح بقوله من الحسان ما أورده غيرهما من الأئمة المذكورين وهو أبو داود والترمذي والنسائي والدارمي وابن ماجه فإن أحاديث المصابيح لا تتجاوز عن كتب الأئمة السبعة وأكثرها صحاح وثالثها وهو المعبر عنه بالفصل الثالث ما اشتمل على معنى الباب أي على معنى عقد له الباب ولم يذكره البغوي في الكتاب من ملحقات بفتح الحاء ومن بيانية لما اشتمل مناسبة بكسر السين أي مشاكله وفي صفة ملحقات والمراد به زيادات ألحقها صاحب المشكاة على وجه المناسبة بكل كتاب وباب غالبا لزيادة الفائدة وعموم العائدة مع محافظة على الشريطة أي من إضافة الحديث إلى الراوي الصحابة والتابعين ونسبته إلى مخرجه من الأئمة المذكورين ولما كان صاحب المصابيح ملتزما للأحاديث المرفوعة في كتابه في الفصلين ولم يلتزم المصنف ذلك نبه عليه بقوله وإن كان أي المشتمل مأثورا أي منقولا ومرويا عن السلف أي المتقدمين وهم الصحابة والخلف أي المتأخرين وهم التابعون واعلم أن تقديم السلف على الخلف ثابت في جميع النسخ المصححة وكأنه وقع في أصل ابن حجر سهو من تقديم الخلف على السلف واعتمد عليه ولتوجيهه تكلف وقال الخلف هم من بعد القرون الثلاثة الأول التي أشار صلى الله عليه وسلم إليها بقوله خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم وقدمهم مع أن رتبتهم التأخير كما صرح به هذا الحديث لأن تقديمهم أنسب بالغاية المذكورة لأنه إذا أتى بالمأنور عنهم فما من السلف أولى ه ولا يخفى أن هذا لا يصلح أن يكون سببا لتقديم الخلف على السلف نعم لو اقتصر على ذكر الخلف ونقل في كتابه عن السلف لكان يوجه بهذا التوجيه قال والسلف وهم أهل القرون الثلاثة الذي هم خير الأمة بشهادة نبيهم صلى الله عليه وسلم وزعم ابن عبد البر أنه قد يكون في الخلف من هو أفضل من الصحابة مما تفرد به والأحاديث التي استدل بها ضعيفة أو محمولة على أن لهم مزية من حيث قوة الإيمان بالغيب والصبر على مر الحق في زمن الجور الصرف والمفضول قد توجد فيه مزية بل مزايا لا توجد في الفاضل ومن ثمة قيل لابن المبارك إيما أفضل معاوية أو عمر بن عبد العزيز فقال الغبار الذي دخل في أنف فرس معاوية مع النبي صلى الله عليه وسلم خير من مثل عمر بن عبد العزيز كذا و كذا مرة ه ولا يخفى أن ابن عبد البر ما أراد إلا هذا المعنى بهذه الحيثية يعينها وهي أن الخلف قد يوجد فيهم ال كمالات العلمية و لرياضيات العملية والحقائق الأنسية والدقائق القدسية وحالات من الكرامات وخوارق العادات بحيث إنهم يكونون أفضل من بعض السلف ممن ليس له ذلك كأعرابي رأى النبي صلى الله عليه وسلم من بعد فإنه لا يقال في حقه
إنه من جميع الوجوه أفضل من جميع الخلف من الأئمة المجتهدين والمشايخ المعتبرين وأما فضيلة نسبة الصحبة فلا ينكر مؤمن شرفها فإنه بمنزلة الإكسير في عظم التأثير ثم تفسير السلف والخلف على ما شرحه وإن كان صحيحا في نفس الأمر ولكن لا يلائم كلام المصنف فإنه لا يروي في كتابه إلا عن الصحابة والتابعين ويدل عليه أسماء رجاله المحصورين في ذكر الصحابة والتابعين فإذا فسر السلف بهم لا يبقى لذكر الخلف معنى وهذا خلف ثم أي بعد ما ذكرت لك إني التزمت متابعة صاحب المصابيح في كل باب إنك أي أيها الناظر في كتابي هذا إن فقدت أي من محله حديثا أي من أصله الذي هو المصابيح في باب مثلا أو في كتاب أيضا والمعنى ما وجدته بالكلية لئلا يشكل بنقله من باب إلى باب كما فعله في مواضع من الكتاب فذلك أي الفقد وعدم الوجد ليس صادرا عن طعن أو سهو بل صدر عن تكرير أي عن وقوع تكرار وفع في المصابيح أسقطه أي أحذف ذلك الحديث لتكريره وأذكر في موضع آخر بعينه من غير تغييره إذ لا داعي إلى إتيانه بعد ظهوره وبيانه وإن وجدت آخر أي صادقت حديثا آخر بعضه بالنصب بدل بعض من كل أي حال كونه متروكا أي بعضه حال كونه جاريا أو بناء على اختصاره يعني اختصار محييى السنة ويؤيده قوله فيما بعد أتركه وألحقه ويحتمل عود الضمير إلى الحديث ويؤيده قوله أو مضموما إليه تمامه كذا ذكره شيخ مشايخنا ميركشاه واقتصر الطيبي على الأول وتبعه ابن حجر والأظهر الثاني كما أفاده السيد جمال الدين بأنه حينئذ يكون الكلام على نسبق واحد وأما على الأول فيحصل تفكيك الضمير وهو غير ملائم ثم المعنى أو وجدت حديثا آخر مضموما إليه تمامه الذي أسقطه البغوي أو أتى به في محل آخر فعن داعي اهتمام الفاء جزائية أي فذلك الترك والضم لم يقع اتفاقا وإنما صدر ونشأ عن موجب اهتمام وقيل عن بمعنى اللام أي فهو لأجل باعث اهتمام اقتضى أني اتركه أي على اختصاره في الأول وألحقه الواو بمعنى أو كما في نسخة أي وألحقه في الثاني لفوات الداعي والسبب إلى اختصاره فهو نشر مرتب قال الفاضل الطيبي وذلك بأن تلك الرواية كانت مختصرة عن حديث طويل جدا فأتركه اختصارا أو كان حديثا يشتمل على معان جمة يقتضي كل باب معنى من معانيه وأرود الشيخ كلا في بابه فاقتفينا أثره في الإيراد وما لم يكن على هذين الوضعين أتتمناه غالبا ه قال السيد جمال الدين كذا قرره الشارح وحرره وأسند الاختصار والإتمام بصيغة المتكلم مع الغير من غير أن ينقل هذا الكلام من المؤلف وهذا الأمر من الشارح يحتمل أن يحمل على سماعه من المصنف ويحتمل أن يكون مراد الشارح أن هذا مقصود الماتن والله أعلم وإن عثرت بتثليث المثلثة والفتح أولى أي اطلعت أيها الناظر في كتابي هذا على اختلاف أي بيني وبي صاحب المصابيح في الفصلين أي الأولين وبيان الاختلاف قوله
من ذكر غير الشيخين أي من المخرجين في الأول أي في الحديث المذكور في الفصل الأول وذكرهما أي أو من ذكر الشيخين في الثاني أي من الفصلين بأن يسند بعض الأحاديث فيه إليهما أو إلى أحدهما فاعلم جزاء الشرط أي إن اطلعت على ما ذكر فاعلم أنه ما صدر عني سهوا أو غفلة فلا تظن هذا واعلم أني بعد تتبعي أي تفحصي وتجسسي كتابي الجمع تثنية مضاف أي كتابين أحدهما الجمع بين الصحيحين أي بين كتابي البخاري ومسلم المسميين بالصحيحين للحميدي متعلق بالجمع وهو بالتصغير نسبة لجده الأعلى حميد الحافظ أبي عبد الله محمد بن أبي نصر الأندلسي القرطبي وهو إمام عالم كبير مشهور ورد بغداد وسمع أصحاب الدار قطني وغيرهم ومات بها سنة ثمانين وأربعمائة وجامع الأصول بالجر عطفا على الجمع أي والآخر جامع الأصول أي الكتب الستة للإمام مجد الدين أبي السعادات المبارك بن محمد الجزري الشهير بابن الأثير وله أيضا مناقب الأخيار وكتاب النهاية في غريب الحديث كان عالما محدثا لغويا وكان بالجزيرة وانتقل إلى الموصل ومات بها عام ست وستمائة اعتمدت على صحيحي الشيخين ومتنيهما عطف بيان وإنما لم يكتف بهما لأنه ربما يحتمل أن يتوهم أن تتبعه واستقراءه غير تام فإذا وافق الحميدي وصاحب جامع الأصول يصير الظن قويا بصحة استقراشه للموافقه ولو اكتفى بتتبع الجمع بن الصحيحين وجامع الأصول لاحتمل وقوع القصور في استقرائهما فبعد اتفاق الأربعة يمكن الحكم بالجزم على سهو البغوي وإن رأيت أي أبصرت أو عرفت أيها الناظر في المشكاة وأصلها مع أصولهما اختلافا في نفس الحديث أي في متنة لا إسناده بأن يكون لفظ الحديث في المشكاة مخالفا للفظ المصابيح فذلك أي الاختلاف ناشىء من تشعب طرق الأحاديث أي من اختلاف أسانيدها ورواتها حتى عند المؤلف الواحد إذ كثيرا ما يقع للشيخين أو أحدهما أو لغيرهما سوق الحديث الواحد من عدة طرق بألفاظ متباينة مختلفة المعاني تارة ومؤتلفتها أخرى ولعلي للإشفاق أي إذا وجدتني آثرت لفظ حديث على الذي رواه البغوي في المصابيح لعلي ما اطلعت أي ما وقفت على تلك الرواية التي سلكها الشيخ أي أطلقها وأوردها في مصابيحه رضي الله عنه إذ هو إمام كبير واطلاعه كثير فأحذفها وآتي باللفظ الذي اطلعت عليه وقليلا ما تجد زيادة ما لتأكيد القلة ونصب قليلا على المصدرية لقوله أقول أي وتجدني أقول قولا قليلا ما أي في غاية من القلة والمقول قوله ما وجدت هذه الرواية أي مثلا في كتب الأصول أي أصول الحديث من الكتب
المبسوطة التي هي أصول السبعة عند الشيخ أو مطلق الأصول ولا يبعد أن ينصب قليلا على الظرفيه أو وجدت من جملة المقول وأو للتنويع خلافها فيها أي خلاف هذه الرواية في الأصول فإذا وقفت عليه الضمير راجع إلى المصدر المفهوم من قوله أقول أي إذا أطلعت على قولي بمعنى مقولي هذا فانسب بضم السين أي مع هذا القصور أي التقصير في التتبع إلي لقلة الدراية أي درايتي وتتبع روايتي لا أي لا تنسب القصور إلى جانب الشيخ أي إلى جانبه وساحة بابه لأنه كان من الأئمة الحفاظ المتقنين والعلماء الكاملين الراسخين هذا ما ظهر لي من معنى الكلام في هذا المقام وقال ابن حجر فإذا وقفت أي فإذا حذفت لفظا وأتيت بغيره حسبما أطلعت عليه ووقفت أنت عليه أي على ذلك اللفظ في الأصول فانسب إلي آخره وأنا أقول أيضا بإلهام الناس الترضي والترحم عليه وفي العقبى بإعطاءه معالم القرب لديه حاشا بإثبات الألف لله أي تنزيلها له من ذلك أي من نسبة القصور إلى الشيخ وهذا غاية من المؤلف في تعظيمه ونهاية أدب منه في تكريمه وهو حقيق بذلك وزيادة فإن له حق الإفادة ونسبة السيادة قال ابن حجر حاشا حرف جر وضعت موضع التنزية والبراءة وفي مغني اللبيب الصحيح أن حاشا اسم مرادف للتنزيه من كذا وزعم بعضهم أنه اسم فعل معناه التبرئ والبراءة وقال الشيخ ابن حجر العسقلاني هو تنزيه واستثناء وقيل معناه معاذ الله وقيل إنه فعل قال السيد جمال الدين قيل الصحيح أنه اسم مرادف للتنزية بدليل أنه قرئ حاش لله يوسف في سورة يوسف بالتنوين وهو لا يدخل على الفعل والحرف وقرئ أيضا حاش الله بالإضافة وهي من علامات الاسم وحنيئذ قوله لله لبيان المنزة والمبرأ كأنه قال براءة وتنزيه ثم قال لله بيانا للمبرا والمنزه فلامه كاللام في سقيا لك فعلى هذا يقال معنى عبارة المشكاة أن الشيخ مبرا ومنزه عن قلة الدراية ثم أتى لبيان المنزة والمبرأ بقوله لله وكان الظاهر أن يقول الله بلا لام وكأنها لإفادة معنى الاختصاص فكأنه يقول تنزيهه مختص لله تعالى وله أن ينزهه وليس لغيره ذلك وفيه غاية التعظيم لما هنالك ويحتمل أن يكون التقدير وأقول في حقه التنزيه لله لا لأمر آخر وقيل حاشا فعل وفسر الآية بأنه معناها جانب يوسف الفاحشة لأجل الله وعلى هذا يرجع عبارة المشكاة بأنه جانب الشيخ ذلك القصور لأجل اله لا لغرض آخر أو قولنا في حقه حاشا إنما هو لله لا لأمر آخر وقيل إنه اسم فعل بمعنى أنزه أو تبرأت واللام علة وقيل إنه حرف وهو في هذا المقام ضعيف لأن كونه حرفا بمعنى الاستثناء وهو غير مستقيم هنا ولام الله أيضا يأبى عن الحرفية لأن الحرف لا يدخل على الحرف والله علم رحم الله جملة دعائية كقول عمر رضي الله عنه رحم الله امرأ أهدى إلي بعيوب نفسي أي اللهم ارحم من إذا وقف على ذلك أي على ما ذكر من الرواية التي أوردها الشيخ ولم أجدها في الأصول نبهنا عليه وأرشدنا فيه تجريد والمعنى هدانا طريق الصواب أي
إليه بنسبة الرواية وتصحيحها إلى الباب والكتاب وهو إما محمول على الحقيقة بالمشافهة حال الحياة أو على المجاز بكتابة حاشية أو شرح بعد الممات إذ التصنيف لا يغير وإلا لم يوجد كتاب يعتبر ولم آل بمد الهمزة وضم اللام من ألا في الأمر إذا قصر أي لم أترك حهدا أي سعيا واجتهادا وهو بضم الجيم وفتحه أي المشقة والطاقة وقيل بالضم الطاقة وبالفتح المشقة قال بعض الشراح معناه لم أمنعك جهدا وكأنه حمله عليه ما وجد في كلام العرب لا آلوك نصحا وقرر تركيب العبارة على حذف المفعول الأول واستعمل آلو بمعنى أمنع إما تجوزا وإما تضمينا ويلزم منه التقصير والحال أن المعنى على اللزوم صحيح بأن جهدا يكون تمييزا أو حالا بمعنى مجتهدا أو منصوبا بنزع الخافض أي في الاجتهاد وأن يكون على تقدير متعديا إلى مفعولين يمكن أن يضمن الترك فيكون متعديا إلى مفعول واحد هذا حاصل كلام السيد جمال الدين وقال البيضاوي في قوله تعالى لا يألونكم خبالا آل عمران أي لا يقصرون لكم في الفساد والآلو التقصير وأصله أن يعدى بالحرف ثم عديإلى مفعولين كقولهم لا آلوك نصحا على تضمين معنى المنع والنقص وقال أبو البقاء يألو يتعدى إلى مفعول واحد خبالا تمييز أو منصوب بنزع الخافض ويجوز أن يكون مصدرا في موضع الحال والأظهر ما حققه القاضي أنه في أصله لازم ففي عبارة المشكاة إما يضمن معنى الترك فيكون جهدا مفعولا به أو يبقي على معناه الألي وينصب جهدا على أحد الاحتمالا ت الثلاث والمعنى لم أقصر لكم أو الله في التنقير أي في البحث والتجسس عن طرق الأحاديث واختلاف ألفاظها والتفتيش عطف بيان لما قبله بقدر الوسع والطاقة أي بمقدار وسعي وطاقتي في التفحص ولا يكلف الله نفساط إلا وسعها البقرة والطاقة عطف بيان وإيراد الألفاظ المترادفة في الديباحات والخطب متعارف عند الفصحاء غير معايب عند البلغاء ونقلت ذلك الاختلاف أي المختلف فيه كما وجدت أي كما رأيته في الأصول ولا اكتفيت بتقليد الشيخ ولو كان هو من أجلاء أرباب النقول وقال ابن حجر أي ومن ثمة نقلت ذلك الاختلاف كما وجدته في الأصول من غير أن أتصرف فيه بتغيير أو بتبديل حتى أنسب كلا إلى مخرجه باللفظ والمعنى لا المعنى فحسب لوقوع الخلاف المشهور في جواز رواية الحديث بالمعنى وهو وإن جاز على الأصح للعارف بمدلولات الألفاظ ومعانيها لكن التنزه عنها أولى خروجا من الخلاف ه فتدبر يتبين لك الأظهر في حمل العبارة عليه وإن كان في أصل الكلام منه لا مناقشة لنا لديه مع أن التجويز المذكور والاختلاف المسطور إنما هو في نقل الراوي الحديث من شيخه أما مطلقا أو حال كونه ناسيا على المتعمد وأما نقل حديث من كتاب بالبخاري وغيره وإسناده إليه من غير أن يبين أنه نقل بالمعنى فلا يجوز إجماعا والله أعلم وما أشار إليه أي الشيخ محييى السنة صريحا أو كناية رضي الله عنه جملة دعائية معترضة بين المبين والمبين وهو قوله من غريب أي حديث غريب وهو ما تفرد به الراوي عن سائر رواته ولم يشرك معه أحدا في روايته عن الراوي عنه أوضعيف وهو ما لم يجتمع
فيه صفات الصحيح والحسن بأن يكون في أحد رواته قدح أو تهمه أو غيرهما اعتبارا لا حقيقية إذ ما عدا الصحيح والحسن داخل تحت أنواع الضعيف والمراد بغيرهما نحو منكر وهو ما رده قطعي أو رواه ضعيف مخالف لثقة أو شاذ وهو ما خالف الثقة من هو أوثق منه أو معلل وهو ما فيه علة خفية غامضة قادحة لم يدركها إلا الحذاق واعلم أن معرفة أنواع الحديث وبيان حدودها وما يتعلق بها من قيودها يحتاج إلى بسط في الكلام ليس هذا موضع إيرادها وقد أوردنا في شرح النخبة ما يستفيد بذكره المبتدئ ولا يستغني عن تذكره المتتهى بينت وجهه أي وجه غرابته أو غرابته أو ضعفه أو نكارته غالبا أي في أكثر المواضع ولعل ترك التبيين في بعض مواضعه لعدم العلم به أو لاختلاف فيه أو لغير هذا وقد قال السيد جمال الدين المتبادر إلى الفهم من هذه العبارة أن أحاديث الحسان من المصابيح المعبر عنه في المشكاة بالفصل الثاني كل حديث ذكر الشيخ فيه أنه غريب أو ضعيف أو منكر بين المصنف وجهه بأن يقول أي الراوي تفرد به أو غير ثقة أو مخالف لما هو أوثق ونحوه بذكره منشئه والحال أنه لم يفعل ذلك بل في كل حديث ذكر محيي السنة أنه ضعيف أو غريب ذكر المصنف قائله الذي هو الترمذي في غالب الأحوال من أرباب الأصول وعينه وغاية ما في الباب يشير الترمذي أحيانا إلى وجه الغرابة وبيان الضعف وهذا الصنيع من المصنف يقتضي أنه لم يجعل محيي السنة أهلا للحكم بالضعف والصحة في الحديث فلا جرم نسبته إلى من له أهلية ذلك انتهى فيكون المعنى بينت وجهه بنسبة الحكم عليه بذلك إلى أهله المرجوع إليهم فيه وهذا يحتمل على أن يكون تقوية للشيخ لا سلب الأهلية عنه فالعلمان خير من علم واحد بل في هذا هضم لنفس المصنف أن يكون له أهلية لذلك وما لم يشر إليه أي الشيخ مما في الأصول أي مما أشير إليه من المنقطع والموقوف والمرسل في جامع الترمذي وسنن أبي داود والبيهقي وهو كثير فقد قفيته بالتشديد أي تبعته تأسيا به كذا قاله الطيبي وتبعه ابن حجر وكتب ميرك في هامش الكتاب قفوته بالواو ورقم عليه ظ إشارة إلى أنه الظاهر وكتب عمه السيد جمال الدين في أول شرح المشكاة إن إصل سماعنا وجميع النسخ الحاضرة المعتمدة صححت بتشديد الفاء من التقفية وهي تستعمل في كلام العرب بعلى والباء وقد جاء في التنزيل وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم المائدة وتستعمل أيضا بمن والباء قال تعالى وقفينا من بعده الرسل البقرة والمعنى ههنا على التتبع فكان المناسب أن يكون بتخفيف الفاء وبالواو من القفو انتهى وحاصل المناقشة أنه بالتشديد متعد إلى مفعولين بأحد الاستعمالين المذكورين وبالتخفيف والباء غير وارد وكلاهما مدفوع فإنه ذكر في مختصر النهاية قفيته وأقفيته تبعته واقتديت به و في القاموس قفويه تبعته كتقفيته واقتفيته وقفيته زيدا أي أتبعته إياه ه والظاهر من الآيات القرآنية أن قفي بالتشديد متعد بنفسه إلى واحد وبالباء إلى اثنين ولذا قال البيضاوي في قوله تعالى وقفينا من بعده بالرسل البقرة أي
بمشكاة المصابيح أرسلنا على أثره الرسل كقوله تعالى ثم أرسلنا تترى المؤمنون يقال قفاه إذا اتبعه وقفاه به إذا أتبعه من القفا نحو ذنبه من الذنب انتهى وعلى تقدير تسليم أنه متعد بنفسه إلى مفعولين فأمره سهل بأن يكون لاالمعنى أتبعت نفسي إياه في تركه وهو يحتمل أن يكون من إضافة المصدر إلى فاعله أو مفعوله أي في ترك الشيخ الحكم على الحديث بشيء أو في ترك المشار إليه بالموافقة معه في السكوت عليه إلا في مواضع أي قليلة أبينها لغرض قال الفاضل الطيبي وذلك أن بعض الطاعنين أفرزوا أحاديث من المصابيح ونسبوها إلى الوضع ووجدت الترمذي صححها أو حسنها وغير الترمذي أيضا فبينته لرفع التهمة كحديث أبي هريرة المرء على دين حليلة فإنهم صرحوا بوضعه وقال الترمذي في جامعه إنه حسن وقال النووي في الرياض إنه صحيح الإسناد ومن الغرض أن الشيخ شرط في الخطبة أنه أعرض عن ذكر المنكر وقد أتى في كتابه بكثير منه وبين في بعضها كونه في الخطبة أنه أعرض عن ذكر المنكر وقد أتى في كتابه بكثير منه وبين في بعضها كونه منكرا وترك في بعضها فبينت أنه منكر ه قال السيد جمال الدين والجواب من قبل صاحب المصابيح أن يقال مراده أنه أعرض من المنكر المجمع على نكارته والذي أورده هو من قبيل المختلف فيه وصرح بإنكار البعض لئلا يحمل على ذهوله وأعرض عن بيان البعض لأن الحكم بنكارته كان غير معتبر عنده وربما بالتشديد أشهر واللتقليل أظهر ما كافة تجد أي أيها الناظر في المشكاة مواضع مهملة أي غير مبين فيها ذكر مخرجيها وذلك أي الإهمال وعدم التبيين حيث لم أطلع على راويه أي مخرجه فتركت البياض أي عقب الحديث دلالة على ذلك فإن عثرت عليه أي اطلعت أيها الناظر على مجرجه فألحقه أي ذكر المخرج به أي بذلك الحديث واكتبة في موضع البياض و قال ابن حجر ألحقه بذلك البياض وفيه مسامحة لا تخفى أحسن الله جزاءك أي على هذا العمل والجزاء ممدود بمعنى الثواب وفيه إشارة لما ورد عن أسامة مرفوعا من صنع إليه معروف فقال لفاعله جزاك اله خيرا فقد أبلغ في الثناء رواه الترمذي والنسائي وابن حبان هذا وقد بين بعض العلماء المواضع المهملة في حاشية الكتاب تكمله وترك البياض في أصل المصنف ليدل على أن التبيين من غير المؤلف وسميت الكتاب بمشكاة المصابيح قال الطيبي وعي المناسبة بين الاسم والمعنى فإن المشكاة يجتمع فيها الضوء فيكون أشد تقويا بخلاف المكان الواسع والأحاديث إذا كانت غفلا عن سمة الرواة انتشرت وإذا قيدت بالراوي انضبطت واستقرت في
مكانها ه وتبعه ابن حجر وقال ميرك لأظهر في وجه المطابقة أن كناية محيط ومشتمل على ما في المصابيح من الأحاديث كما أن المشكاة محيطة ومشتملة على المصباح ه ويمكن أن يقال مراده بالمصابيح الأحاديث الواردة في كتابه مما في المصابيح وغيره مشهبا بها لأنها آيات نورانية ودلالات برهانية صدرت من مشكاة صدر الأنبياء ليقتدي بها أمته من العلماء والأولياء في بيداء الضلالة وصحراء الجهالة وبهذا المعنى ورد أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم وشبه كتابه من حيث إنه جامع لها ومانع من تفرقها بالمشكاة وهي الكوة الغير النافذة ويحتمل أن يقال فيه معنى التورية وهي أن يؤتي بكلمة لها معنيان أحدهما قريب والآخر بعيد ويكون المراد البعيد وأسال الله التوفيق أي جعل أمور المريد على وفق المراد وهو في عرف العلماء خلق قدرة العبد في الطاعة والعبادة والإعانة أي في الدين والدنيا والآخرة أو على ما قصدت والهداية أي الدلالة على ما أردت أو ثبات الهداية من البداية إلى النهاية والصيانة أي الحفظ والحماية من العقائد الدينة والأحوال الردية أو العصمة عن الخطل الزلل أو عما يمنع إتمام الكتاب والتفتيش والتنقيرب وأن ينفعني به أي الله بهذا الكتاب على سبيل المجاز في الحياة أي بالمباشرة وبعد الممات بالسبية أو في الحياة بأن يجعله سببا لزيادة الأعمال وباعثا للترقي إلى علو الأحوال وبعد الممات بوصول أعلى الدرجات وحصول أعلى المقامات وجميع المسلمين والمسلمات عطف على الضمير المنصوب في ينفعني أي وأن ينفع بقراءته وكتابته ووقفه ونقله إلى البلدان ونحو ذلك حسبي الله وفي نسخة بواو العطف أي الله كافي في جميع أموري ونعم الوكيل أي الموكول إليه يعني هو المفوض إليه والمعتمد عليه والمخصوص بالمدح محذوف هو هو ولا حول أي عن مصية الله ولا قوة أي على طاعتبه إلا بالله أي بعصمته ومعونته العزيز أي الغالب على ما يريد أو البديع الذي ليس كمثله شيء الحكيم أي صاحب الحكم والحكمة على وجه الإتقان والإحكام قال ابن حجر ذكر هذين الاسمين لأنهما الواردان في ختم هذه الكلمة دون ما اشتهر من ختمها بالعلي العظيم على أن في بعض نسخ الحصين الحصين للحافظ الجزري رواية ختمها بالعلي العظيم فلعله رواية أخرى ه اعلم أن الرواية الصحيحة هي العزيز الحكيم على ما في مسلم كل نقله صاحب المصابيح وتبعه صاحب المشكاة وكذا هو في أصل الحصن الحصين وكتب على حاشيته العلي العظيم ونسب إلى البراز والله أعلم
ولما كان ينبغي لكل مصنف كما صرح به جمع من الأئمة أن يبدأ كتابه بالحديث الآتي المسمى بطليعة كتب الحديث تنبيها على تصحيح النية والإخلاص لكل من العالم والمتعلم وإنه الأساس الذي يبنى عليه جميع الأحوال من العقائد والأعمال وعلى أن أول الواجبات قصد المقصد بالنظر الموصل إلى معرفة الصمد فالقصد سابق وما بقي لاحق وإن طالب الحديث حكم المهاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فعليه أن يراعي الإخلاص ليصل إلى مقام الاختصاص بدأ به المصنف اقتداء بالبغوي لا تبعا للبخاري كما قاله ابن حجر فقال عن عمر بن الخطاب وهو الناطق بالصواب المسمى بالفاروق على ما دل عليه الكتاب وأول من سمي بأمير المؤمنين فيما بين الأصحاب رضي الله عنه وهو عدوي قرشي يجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في كعب بن لؤي كناه النبي صلى الله عليه وسلم بأبي حفص وهو لغة الأسد ولقبه بالفاروق لفرقاته بين الحق والباطل قال القاضي في تفسيؤره عند قوله تعالى يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت النساء عن ابن عباس رضي اله عنهما أن منافقا خاصم يهوديا فدعاه اليهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ودعاءه المنافق إلى كعب بن الأشرف ثم إنهما احتكما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحكم لليهودي فلم يرض المنافق وقال نتحاكم إلى عمر فقال اليهودي لعمر قضى لي رسول الله فلم يرض بقضائه وخاصم إليك فقال عمر للمنافق أكذلك قال نعم فقال مكانكما حتى أخرج إليكما فدخل فأخذ سيفه ثم خرج فضرب به عنق المنافق حتى برد وقال هكذا أقضي لمن لم يرض بقضاء الله ورسوله فنزلت وقال جبريل إن عمر فرق بين الحق والباطل فسمي الفاروق وقيل بإسلامه إذ أمر المسلمين قبله كان في غاية من الخفاء وبعده على غاية من الظهور والجلاء أسلم بعد أربعين رجلا وعشرة امرأة سنة ست من النبوة وقيل أسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة وثلاثون رجلا وست نسوة ثم أسلم عمر فنزلت يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين الأنفال بويع له بالخلافة بعد موت الصديق بعهده إليه ونصه عليه سنة ثلاث عشرة من الهجرة ففتح البلاد الكثيرة والفتوح الشهيرة واستشهد على يد نصراني اسمه أبو لؤلؤة غلام مغيرة بن شعبة بالمدينة في صلاة الصبح من يوم الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجة عام ثلاث وعشرين من الهجرة وهو ابن ثلاث وستين على الأصح وكانت خلافته عشر سنين ونصفا وصلى عليه صهيب روى عنه أبو بكر وباقي العشرة وخلق كثير من الصحابة والتابعين أحاديثه المرفوعة خمسمائة وسبعة وثلاثون له في الصحيحين أحد وثمانون انفرد البخاري منها بأربعة وثلاثين
ومسلم بأحد وعشرين نقش خاتمة كفى بالموت واعظا كان شديدا في أمر الله عاقلا مجتهدا صابرا محتسبا جعل الحق على لسانه وأعز الدين به واستبشر أهل السماء بإسلامه وله فضائل لا تحد وشمائل لا تعد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما الأعمال بالنيات قيل كلمة إنما بسيطة وقيل مركبة من إن وما الكافة أو الزائدة للتأكيد وقيل مركبة من إن النافية فهي عاملة بركنيها إيجابا ونفيا فيحرف التحقيق تثبت الشيء وبحرف النفي تنفي ما عداه وما اعترض عليه من لزوم اجتماع الضدين على شيء واحد ومن أن إن وما كلاهما يقتضي الصدارة مدفوع بأن هذا إنما هو قبل التركيب وأما بعده فقد صار علما مفردا على إفادة الحصر وتضاعيفه يفيد القصر لأنه ليس إلا تأكيدا للحكم على تأكيد واتفق أهل العربية والأصول على أنها موضوعة للحصر خلافا لما نقل عن أكثر النجاة لصحة إنما قام زيد في جواب هل قام عمرو كما يجاب بما قام إلا زيد ولورود قوله تعالى أنما على رسولنا البلاغ المبين المائدة وما على الرسول إلا البلاغ النور وإذا تقرر أنها للحصر فتثبت المذكور وتنفي الحكم عن غيره في نحو إنما قام زيد أي لا عمرو أو غير الحكم عن المذكور في نحو إنما زيد قائم أي لا قاعد ومما يدل له حديث إنما الماء من الماء فإن الصحابة الآخذين بقضيته لم يعارضهم جمهورهم القائلون بوجوب الغسل وغن لم ينزل بأن إنما لا تفيده وإنما عارضوهم بأدلة أخرى كحديث إذا التقى الختانان وجب الغسل وقد استدل ابن عباس لما تفرد به قيل ورجع عنه لما اشتد إنكار أبي سعيد الخدري عليه بخبر إنما الربا في النسيئة ولم تنازعه الصحابة فيه بل عارضوه في الحكم بأدلة أخرى فدل على اتفاقهم على أنها للحصر فالتقدير إن الأعمال تعتبر إذا كانت بنية ولا تعتبر إذا كانت بلا نية فتصير إنما بمعنى ما وإلا وقيل الحصر مستفاد من الجمع المحلى باللام فإنه مفيد للاستغراق وهو مستلزم للحصر فالتقدير إن الأعمال تعتبر إذا كانت بنية ولا تعتبر إذا كانت بلا نية فتصير إنما بمعنى ما وإلا وقيل الحصر مستفاد من الجمع المحلى باللام فإنه مفيد للاستغراق وهو مستلزم للحصر فالمعنى ليست الأعمال حاصلة إلا بالنية ولا يمكن هنا نفي نفس الأعمال لثبوتها حسا وصورة من غير اقتران النية بها فلا بد من إضمار شيء يتوجه إليه النفي ويتعلق به الجار فقيل التقدير صحيحة أو تصح كما هو رأي الشافعي وأتباعه وقيل كاملة أو تكمل على رأي أبي حنيفة وأصحابه والأظهر أن المقدر معتبرة أو تعتبر ليشمل الأعمال كلها سواء كانت عبادات مستقلات كالصلاة والزكاة فإن النية تعتبر لصحتها إجماعا أو شروطا في الطاعات كالطهارة وتسر العورة فإنها تعتبر لحصول ثوابها اتفاقا لعدم توقف الشروط على النية في الصحية خلافا للشافعي في الطهارة فعليه بيان الفرق أو أمورا مباحة فإنها قد تنقلب بالنيات حسنات كما أنها قد تنقلب سيئآت بلا خلاف غاية ما في الباب أن متعلق الصحة والكمال يعرف من الخارج ولا محذور فيه ويدل على ما قلنا إن الأعمال جمع محلى باللام فيستغرق كل عمل سواء كان
من العبادات أو غيرها ويشمل المتروكات أيضا فإنه لا ثواب في ترك الزنا والغضب ونحوهما إلا بالنية وإن كان صحيحة بدونها وكان هذا ملحظ من قال المراد أعمال المكلفين ويؤيده ما قال ابن دقيق العيد ولا تردد عتدي أن الحديث يشمل الأقوال ثم الباء للاستعانة وقيل للمصاحبة ليعلم منه وجوب المقارنة لكنها تشعر بوجوب استصحابها إلى آخر العمل لأنه الظاهر من المعية ولا قائل به نعم يشترط اتفاقا استصحابها مع العمل حكما بأن لا ينشىء منافيا وأيضا تشير إلى عدم جواز تقدمها على العمل وهو منقوض بنية الزكاة فإنها جائزة عند إفراد مال الزكاة وبنية الصوم في الليل فإنها أفضل بلا خلاف فالأولى هي الأولى وأوقات النيات في العبادات مختلفة محل بسطها الكتب الفقهيات والنية بتشديد الياء وقد تخفف لغة القصد وشرعا توجه القلب نحو الفعل ابتغاء لوجه الله والقصد بها تمييز العبادة عن العادة فإن قيل النية عمل من أعمال القلب فيحتاج إلى النية ويتسلسل أجيب بأن المراد أعمال الجوارح بدلالة العقل وبدليل الخبر المعتبر نية المؤمن خير من عمله وبدليل أن في العرف لا يطلق العمل على فعل التاوي ه وفيه أن سائر أعمال القلوب لا تعتبر شرعا إلا بالنية وأن معنى الحديث عمل النية خير من عمل الجارحة لوجوه ذكرها الحجة لفي الإحياء وأنه لا عبرة بالعرف مع أنه يختلف فالأظهر في الجواب استثناء النية وكذا الأمور الاعتقادية للدلالة العقلية ثم لا يخفى أن النية باللسان مع غفلة الجنان غير معتبرة لما ورد من إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم وفي رواية ولكن ينظر إلى قلوبكم ونياتكم فلو نوى الظهر بقلبه في وقته وتلفظ بنية العصر لا يضر ه بخلاف العكس وهذا معنى قولهم ولا معتبر باللسان واختلفوا في التلفظ بما يدل على النية بعد اتفاقهم أن الجهر بالنية غير مشروع سواء يكون إماما أو مأموما أو منفردا فالأكثرون على أن الجمع بينهما مستحب ليسهل تعقل معنى النية واستحضارها قال صاحب الهداية ويحسن لاجتماع عزيمته قال المحقق الإمام ابن الهمام قال بعض الحفاظ لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بطريق صحيح ولا ضعيف أنه كان عليه الصلاة والسلام يقول عند الافتتاح أصلي كذا ولا عن أحد من الصحابة والتابعين بل المنقول أنه كان عليه الصلاة والسلام إذا قام إلى الصلاة كبر وهذه بدعة ه قال وقد يفهم من قول المصنف لاجتماع عزيمته إذا قام إلى الصلاة كبر وهذه بدعة ه قال وقد يفهم من قول المصنف لاجتماع عزيمته أنه لا يحسن لغير هذا القصد وهذا لأن الإنسان قد يغلب عليه تفرق خاطره فإذا ذكر بلسانه كان عونا على جمعه ثم رأيته في التجنس قال والنية بالقلب لأنه عمله والتكلم لا معتبر به ومن أختاره أختاره لتجتمع عزيمته ه كلامه وقيل لا يجوز التلفظ بالنية فإنه بدعة والمتابعة كما تكون في الفعل تكون
في الترك أيضا فمن واظب على فعل لم يفعله الشارع فهو مبتدع و قد يقال نسلم إنها بدعة لكنها مستحسنة استحبها المشايخ للاستعانة على استحضار النية لمن احتاج إليها وهو عليه الصلاة والسلام وأصحابه لما كانوا في مقام الجمع والحضور لم يكونوا محتاجين إلى الاستحضار المذكور وقيل التلفظ شرط لصحة الصلاة ونسبوه إلى الغلط والخطأ ومخالفة الإجماع لكن له محمل عندنا مختص بمن ابتلي بالوسوسة في تحصيل النية وعجز من أدائها فإنه قيل في حقه إذا تلفظ بالنية سقط عنه الشرط دفعا للحرج وأغرب ابن حجر وقال إنه عليه الصلاة والسلام نطق بالنية في الحج فقسنا عليه سائر العبادات قلنا له ثبت العرش ثم انقش من جملة الواردات فإنه ما ورد نويت الحج وإنما ورد اللهم إني أريد الحج الخ وهو دعاء وإخبار لا يقوم مقام النية إلا بجعله إنشاء وهو يتوقف على العقد والقصد الإنشائي غير معلوم فمع يقوم مقام النية إلا بجعله إنشاء وهو يتوقف على العقد والقصد الإنشائي غير معلوم فمع الاحتمال لا يصح الاستدلال ومع عدم صحته جعله مقيسا محال ثم قال وعدم وروده لا يدل على عدو وقوعه قلنا هذا مردود بأن الأصل عدم وقوعه حتى يوجد دليل وروده وقد ثبت أنه عليه الصلاة والسلام قام إلى الصلاة فكبر فلو نطق بشيء آخر لنقلوه عنه وورد في حديث المسيء صلاته أنه قال له إذا قمت إلى الصلاة فكبر فدل على عدم وجود التلفظ وذكر أبو داود أنه قال قلت للبخاري هل تقول شيئا قبل التكبير فقال لا انتهى وبما ذكرناه يتبين فساد بقية كلام ابن حجر من قوله وأيضا فهو عليه الصلاة السلام لا يأتي إلا بالأكمل وهو أفضل من تركه إجماعا والنقل الضروري حاصل بأنه لم يواظب على ترك الأفضل طول عمره فثبت أنه أتى في نحو الوضوو والصلاة بالنية مع النطق ولم يثبت أنه تركه والشك لا يعارض اليقين ه وقد علمت أن الأفضل المكمل عدم النطق بالنية مع أن دعوى الإجماع غير صحيحة فإن المالكية قالوا بكراهته والحنبلية نصوا على أنه بدعة غير مستحب وإن أراد به الاتفاق بين الشافعية والحنفية فليس على الإطلاق بل محله إن احتاج إليه بالاستعانة عليه وقد ثبت تركه عند الحفاظ المحدثين لا ريب فقوله والشك لا يعارض اليقين مجازفة عظيمة من أعجب العجائب الذي يتحير فيه أولو الألباب حيث جعل الوهم يقينا وثبوت الحفاظ ريبا لا يقال المثبت مقدم على الناقي لأنا نقول محله إذا تعارض دليلان أحدهما على النفي والآخر على الإثبات والخصم هنا سواء جعلناه مثبتا أو نافيا ليس معه دليل ودليلنا على النفي ثابت بنقل المحدثين المؤيد بالأصل الذي هو عدم الوقوع فتأمل فإنه موضع زلل ومحل خطل ثم رأيت ابن القيم ذكر في زاد المعاد في هدى خير العباد وهذا لفظه كان عليه الصلاة والسلام إذا قام إلى الصلاة قال الله أكبر ولم يقل شيئا قبلها ولا تلفظ بالنية ولا قال أصلي لله صلاة كذا مستقبل القبلة أربع ركعات إماما أو مأموما ولا قال أداء ولا قضاء ولا فرض الوقت وهذه عشر بدع لم ينقل عنه عليه الصلاة والسلام أحد قط بإسناد صحيح ولا ضعيف ولا مسند ولا مرسل
لفظه واحدة منها ألبته بل ولا عن أحد من الصحابة ولا استحبه أحد من التابعين ولا الأئمة الأربعة وإنما غر بعض المتأخرين قول الشافعي في الصلاة إنها ليست كالصيام لا يدخل فيها أحد إلا بذكر فظن أن الذكر تلفظ المصلي بالنية وأن مراد الشافعي بالذكر تكبيرة الإحرام ليس إلا وكيف يستحب الشافعي أمرا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة واحدة ولا أحد من خلفائه وأصحابه وهذا هديهم وسيرتهم فإن أوجدنا أحد حرفا واحدا عنهم في ذلك قبلناه وقابلناه بالقبول والتسليم ولا هدي أكمل من هديهم ولا سنة إلا ما تلقوه عن صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم ه وصرح السيد جمال الدين المحديث بنفي رواية التلفظ بالنية عن المحدثين وكذا ذكره الفلايروزآباري صاحب القاموس في كتابه المسمى بالصراط المستقيم وقال القسطلاني في المواهب وبالجملة فلم ينقل أحد أنه عليه الصلاة والسلام تلفظ بالنية ولا علم أحدا من أصحابه التلفظ بها ولا أقره على ذلك بل المنقول عنه في السنن أنه قال مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم نعم اختلف العلماء في التلفظ بها فقال قائلون هو بدعة لأنه لم ينقل فعله وقال آخرون هو مستحب لأنه عون على استحضار النية القلبية وعبادة للسان كما أنها عبودية للقلب والأفعال المنوية عبادة الجوارح وبنحو ذلك أجاب الشيخ تقي الدين السبكي والحافظ عماد الدين ابن كثير وأطنب ابن القيم في الهدى في رد الاستحباب وأكثر من الاستدلال بما في ذكره طول يخرجنا عن المقصود لا سيما والذي استقر عليه أصحابنا استحاب النطق بها وقاسه بعضهم على ما في الصحيحين من حجيث أن سمع النبي صلى الله عليه وسلم يلبي بالحج والعمرة ن جميعا يقول لبيك عمرة وحجة وهاذ تصريح باللفظ والحكم كما يثبت بالنص يثبت بالقياس لكنه تعقب هذا بأنه عليه الصلاة والسلام قال ذلك في ابتداء إحرامه تعليما للصحابة ما يهلون به ويقصدونه من النسك ولقد صلى عليه الصلاة والسلام ثلاثين ألف صلاة فلم ينقل عنه أنه قال نويت أصلي صلاة كذا وكذا وتركه سنة كما أن فغله سنة فليس لنا أن نسوي بين ما فعله وتركه فتأتي من القول في الموضع الذي تركه بنظير ما أتى به في الموضع الذي فعله والفرق بين الحج والصلاة أظهر من أن يقاس أحدهما بالآخر ثم اللام في الينات عوض عن المضاف إليه أي إنما الأعمال بنياتها أو الحديث من باب مقابلة الجمع بالجمع على حد ركب القوم دوابهم قال ابن الهمام هذا حديث مشهور متفق على صحته وأما ألفاظه فإنما الأعمال بالنيات وبالنية والأعمال بالنية والعمل بالنية كلها في الصحيح وأما الأعمال بالنيات كما في الكتاب يعني الهداية فقال النووي في كتابه بستان العارفين ولم يكمل نقلا عن الحافظ أبي موسى الأصفهاني إنه لا يصح إسناده وأقره ونظر بعضهم فيه إذا قد رواه كذلك ابن حبان في صحيحة والحاكم في أربعينه ثم حكم بصحته قلت وهو رواية عن إمام المذهب في مسند أبي حنيفة رحمه الله رواه عن يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم التيمي عن علقمة عن أبي
وقاص الليثي عن عمر بن الخطاب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الأعمال بالنيات الحديث ورواه ابن الجارود في المنتقى إن الأعمال بالنيات وإن لكل امرئ ما نوى ه رووي عن الشافعي في فضل هذا الحديث أنه يدخل فيه نصف العلم ووجهه أن النية عبودية القلب والعمل عبودية القالب أو أن الدين إما ظاهر وهو العمل أو باطن وهو النية فهو كقوله عليه الصلاة والسلام تعلموا الفرائض فإنها نصف العلم لتعلقها بالموت المقابل للحياة وروي عنه ما يدل على أنه ربع العلم كما قال عمدة الخير عندنا كلمات أربع قالهن خير البرية اتق الشبهات وازهد ودع ما ليس بعينك واعمل بنيه إشارة إلى الأحاديث الأربعة فكأنه اعتبر اتقاء السيئات والزهد في المباحات وترك الفضولات والعمل بالنيات في جميع الحالات وروي عنه وعن أحمد أنه ثلث الإسلام أو ثلث العلم ووجه البيهقي بأن كسب العبد إما بقلبه كالنية أو بلسانه أو ببقية جوراحه والأول أحد الثلاثة بل أرجحها لأنه عبادة بانفرادها وهذا وجه خبر نية المؤمن خير من عمله وفي رواية أبلغ وفي أخرى زيادة إن الله عز وجل ليعطي العبد على نيته ما لا يعطيه على عمله وذلك أن النية لا رياء فيها والعمل يخالطه الرياء وله طرق ضعيفة يتقوى بمجموعها ولا يعارضه حديث من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له واحدة ومن عملها كتبت له عشرة الموهم أن العمل خير منها لأن كتابة العشر ليست على العمل وحده بل معها لأنها شرط لصحته وهو ليس شرطا لصحتها ولهذا يثاب على النية المجردة فانقلب هذا الحديث دليلا على خيريتها وظهر فساد ما قيل المراد أن النية خبر من العمل بلا نية لا معها لئلا يلزم أن الشيء خير من نفسه مع غيره والعجب من ابن حجر حيث ذكر هذا القيل وقرره بالتعليل وأما قوله ومن خيريتها على العمل أنها تقتضي التخليد في الجنة أو النار إذ المؤمن ناو الإيمان دائما والكافر ناو الكفر دائما فقوبل التأبيد بالتأبيد ولو نظر للعمل لكان الثواب أو العقاب بقدر مدته فمدخلو ومعلول فإنه لا يقال نية الكافر خير من عمله بل مفهوم الحديث أن عمل الكافر خير من نيته نعم ذكروا في جانب الجنة أن دخولها بالإيمان ودرجاتها بالأعمال وخلودها بالنية أو من باب الإفضال فلا إشكال وأما دخول الكفار في النار فلكفرهم ودركاتها على قدر أعماله السيئة فكان مقتضى العقل في ظاهر العدل أن الكافر الذي عاش في الدنيا مائة سنة مثلا أن يعذرب قدرها فقالوا التخليد في مقابلة نيته من التأبيد فإنه لو فرض أنه عاش أبدا الآباد لاستمر على كفره المعتاد ثم قيل ضمير عمله الكافر معهود
وهو السابق كبناء قنطرة عزم مسلم على بنائها والقول بأن خير ليست بمعنى أفعل التفضيل والمعنى النية خير من جملة الخيرات ساقط عن الاعتبار من جميع الجهات قال ابن حجر واختلفوا في نية السيئة والحق أنه لا عقاب عليها إلا إن انضم إليها عزم أو تصميم أي عزم على الفعل بالفعل أو تصميم على أنه سيفعل وفيه ان النية لا تكون إلا مع العزيمة وإلا فمع التردد تسمى خطرة وهي مرفوعة بالإجماع قال في المدارك عند قوله تعالى وإن تخفوا ما في صدوركم آل عمران الآية ولا تدخل الوساوس وحديث النفس فيما بخفيه الإنسان لأن ذلك مما ليس في وسعه الخلو عنه و لا يكلف الله نفسا إلا وسعها البقرة ولكن ما اعتقده وعزم عليه والحاصل أن عزم الكفر كفر وخطرة الذنوب من غير عزم معفو عنها وعزم الذنب إذا ندم عليه ورجع عنه معفو عنه بل يثاب فأما إذا هم بسيئة وهو ثابت على ذلك إلا أنه منع عنه بمانع لا باختيار فإنه لا يعاقب على ذلك عقوبة فعله أي بالعزم على الزنا لا يعاقب عقوبة الزنا وهل يعاقب عقوبة عزم الزنا قيل لا لقوله عليه الصلاة والسلام إن الله عفا عن أمتي ما حدثت به أنفسهم ما لم تعمل أو تتكلم به والجمهور على أن الحديث في الخطرة دون العزم وأن المؤاخذة في العزم ثابتة وإليه مال الشيخ أبو منصور وشمس الأئمة الحلواني والدليل عليه قوله تعالى إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة النور الآية ثم قال ابن حجر فإن قلت ونية الحسنة كذلك قلت فرق بأن ناوي الحسنة يثاب عليها وعلى نيتها وناوي السيئة إنما يعاقب على نيتها فقط قلت لا حاجة إلى الفرق فإن لكل امرئ ما نوى ثم ما ذكره من الفرق غير صحيح لأنه إن أراد التعدد الحقيقي فهو غير ثابت وإن أراد التعدد الحكمي وهو الزيادة في الكيفية دون الكمية كما أشار إليه بقوله ومعنى ثوابه على الأولين أنه يكتب له حسنة عظيمة لكن باعتبارين فهذا جار في السيئة أيضا ومن جملة الفروع المتعلقة بهذا الحديث أن من سبق لسانه بمكفر يدين خلافا لبعض المالكية إذ لا نية له ويؤيدنا خير مسلم في الذي ضلت راحلته ثم وجدها فقال من شدة الفرح اللهم أنت عبدي وأنا وربك قال عليه الصلاة والسلام أخطأ من شدة الفرح قال ابن حجر فإن قلت ظاهر كلام بعضهم قبول دعواه سبق اللسان هنا ولو من غير قرينة فينا فيه ما مر في نحو الطلاق أنه لا بد من قرينة فما فرق قلت أما بالنسبة إلى الباطن فهما
على حد سواء فلا شيء عليه باطنا فيهما حيث سبق لسانه وأما ظاهرا فلا بد من قرينة في الطلاق وكذا الكفر كما هو ظاهر ويحتمل قبوله فيه ظاهرا مطلقا أو يفرق بانه يغتفر في حق الله ما لا يغتفر في حق غيره لبناء حقه تعالى على المسامحة وحق الآدمي على المشاحة ومنها أن من وطئ أو شرب أو قتل بظن الحليلة ونحو الماء وغير المعصوم فبان محرما لا يأثم وفي عكسه يأثم اعتبارا بالنية فيهما وقال بعض العلماء استثنى بعض الأعمال من هذا العموم كصريح الطلاق والعتاق لأن تعيين الشارع هذه الألفاظ لأجل هذه المعاني بمنزلة النية ولا يخفي أن هذا إنما هو بالنسبة إلى الصحة والجواز وأما بالنسبة إلى الثواب فلا بد من تصحيح النية والله أعلم إنما لامرئ أي الشخص وفي رواية وإنما لكل امرئ ما نوى أي جزاء الذي نواه من خير أو شر أو جزاء عمل نواة أو نيته دون ما لم ينوه أو نواه غيره له ففيه بيان لما تثمره النية من القبول والرد والثواب والعقاب وغير ذلك كإسقاط القضاء وعدمه إذ لا يلزم من صحة العمل قبوله ووجود ثوابه لقوله تعالى إنما يتقبل الله من المتقين المائدة ففهم من الجملة الأولى أن الأعمال لا تكون محسوبة إلا بالنية ومن هذه أنها إنما تكون مقبولة بالإخلاص وحاصل الفرق أن النية في الأول متعلقة بنفس العمل وفي الثاني متوجهة إلى ما لأجله العمل من الأمل وقيل هذه مؤكدة للأولى تنبيها على سر الإخلاص ونوقش بأن تنبيهها على ذلك يمنع إطلاق كونها مؤكدة وقيل المراد بالأعمال العبادات وبالثاني الأمور المباجات فإنها لا تفيد المثوبات إلا إذا نوى بها فاعلها القربات كالمأكل والمشارب والمناكح وسائر اللذات إذا نوى بها القوى على الطاعات لاستيفاء الشهوات وكالتطيب إذا قصد إقامة السنة ودفع الرائحة المؤذية عن عباد الله تعالى ففي الجملة كل عمل صدر عنه لداعي الحق فهو الحق وكذا المتروكات لا يترتب عليها المثوبات إلا بالنيات روي أن رجلا من بني إسرائيل مر بكثبان رمل في مجاعة فقال في نفسه لو كان هذا الرمل طعاما لقسمه بين الناس فأوحى الله إلى نبيهم قل إن الله قد صدقك وشكر حسن صنيعك وأعطاك ثواب ما لو كان طعاما فتصدقت به وقال الخطابي في أعلام الحديث واختاره النووي إن هذه إشارة إلى إيجاب تعيين المنوي فلا بد أن ينوي في الفائنة من كونها ظهرا أو عصرا ولولاه لدل إنما الأعمال على الصحة بلا تعيين أو أوهم ذلك ه وكذلك إذا عمل عملا ذا وجهين أو وجوه من القربات كالتصدق على القريب الذي يكون جازا له وفقيرا أو غير ذلك من الأوصاف التي يستحق بها الإحسان ولم ينو إلا وجها واحدا لم يحصل له ذلك بخلاف ما إذا نوى جميع الجهات فعلم سر تأخير هذه الجملة وأنهما متغايرتان قيل المفهوم منه أن نية الخاص في ضمن نية العام غير معتبرة كما قال به بعض وقال بعضههم إنها معتبرة ويدل عليه حديث
الخيل لثلاثة الخ والله أعلم وقيل النية في الحديث محمولة على معناها اللغوي ليحسن تطبيقه على ما بعده وتقسيمه بقوله فمن كانت هجرته إلى الله و إلى رسوله فإنه تفصيل ما أجمله واستنباط المقصود عما أصله وتحريره أن قوله إنما لامرئ ما نوى دل على أن الأعمال تحسب بحسب النية إن كانت خالصة لله فهي له تعالى وإن كانت للدنيا فهي لها وإن كان لنظر الخلق فهي لذلك فالتقدير إذا تقرب أن لكل إنسان منوبة من طاعة أو مباح أو غيرهما فمن كانت هجرته من الهجر وهو الترك الذي هو ضد الوصل والمراد هنا ترك الوطن الذي بدار الكفر إلى دار الإسلام كهجرة الصحابة لما اشتد بهم أذى أهل مكة منها إلى الحبشة وإلى المدينة قبل هجرته عليه الصلاة والسلام وبعدها ولما احتاجوا إلى تعلم العلوم من أوطانهم إلى المدينة وقد تطلق كما في أحاديث على هجرة ما نهى الله عنه وفي معناها هجر المسلم أخاه وهجر المرأة مضجع زوجها وعكسه ومنها الهجرة من ديار البدعة إلى بلاد السنة والهجرة لطلب العلم وترك الوطن لتحصيل الحج وفي معناه الاعتزال عن الناس وأما قوله عليه الصلاة والسلام لا هجرة بعد الفتح فمحمول على خصوص الهجرة من مكة إلى المدينة لأن عموم الانتقال من دار الكفر إلى دار الإيمان باق على حاله وكذا الهجرة من المعاصي ثابتة لقوله عليه الصلاة والسلام المهاجر من هجر ما نهى الله عنه والمراد المهاجر الكامل وهذا معنى حديث لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة قيل المراد منها ههنا إلى المدينة لذكر المرأة وحكاية أم قيس لكن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب والمعنى من قصد بهجرته وجه الله والتقرب إلى رضاه لا يخلطها بشيء من الأعراض الدنيوية فهو كتابة عن تخليص النية أو ذكر الله توطئة لذكر الرسول تخصيصا له بالله وتعظيما للهجرة إليه أو ذكر الله للتزيين والإيماء إلى أن الهجرة إليه عليه الصلاة والسلام كالهجرة إلى الله تعلى كقوله ومن يعطع الرسول فقد أطاع الله النساء ثم الثابت في النسخ المصححة إعادة الجار في الشرط والجزاء وهي تفيد الاستقلال في الحكم بمعنى أن كلا من الهجريتين تقوم مقام الأخرى في مرتبة القبول فهجرته إلى الله إلى رسوله لم يقل إليهما استلذاذا بتكرير اسمهما وإلى متعلقة بهجرته إن قدرت كانت تامة وبمحذوف هو خبرها إن كانت ناقصة أي منتسبة إليهما والمراد أصل الكون لا بالنظر إلى زمن مخصوص أو روضعه الأصلي من المضي أو هنا من الاستقبال لوقوعها في حيز الشرط لفظا أو معنى للإجماع على استواء الأزمنة في الأحكام الشرعية إلا لمانع
ثم من القواعد المقررة أنه لا بد من المغايرة بين الشرط والجزاء لحصول الفائدة فقيل التقدير فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله قصدا ونية فهجرته إلى الله ثمرة ومنفعة فهو تمييز للنسبة ويجوز حذفه للقرينة وقيل فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله في الدنيا فهجرته إلى الله ورسوله في العقبى وقيل الجملة الجزائية كناية عن قوله فهجرته مقبولة أو صحيحة فأقيم السبب مقام المسبب وقيل خبره مقدر من طرف الجزاء أي فهجرته إلى الله ورسوله مقبولة أي فهي كما نواها وقد وقع أجره على الله سواء مات في الطريق أو وصل إلى الفريق كقوله تعالى ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله النساء وقيل اتحاد الشرط والجزاء لقصد التعظيم ولإرادة التحقير فيما سيأتي فيكون التغاير معنى بدليل قرائن السياق بأن يراد بالأول ما وجد خارجا وبالثاني ما عهد ذهنا على حد أنت أنت أي الصديق الخالص وهم هم أي الذين لا يعرف قدرهم ومنه أنا أبو النجم و شعري شعري أي شعري الآن هو شعري الذي كان والكبر ما غير اللسان والحاصل أن يقال فهجرته عظيمة ونتيجتها جسيمة ومن كانت هجرته إلى دنيا بضم الدال ويكسر وهي فعلى من الدنو وهو القرب لدنوها إلى الزوال أو لقربها من الآخرة منا ولا تنون لأن ألفها مقصورة للتأنيث أو هي تأنيث أدنى وهي طافية في منع الصرف وتنوينها في لغية شاذ ولإجرائها مجرى الأسماء وخلعها عن الوصفية نكرت كرجعي ولو بقيت على وصفيتها لعرفت كالحسي واختلفوا في حقيقتها مع أنه لا حقيقة لها فقيل وهي اسم مجموع هذا العالم المتناهي ففي القاموس الدنيا نقيض الآخرة ولو قال ضدها لكان أولى إيماء إلى أنهما لا يجتمعان مع جواز إنهما يرتفعان وقيل هي ما على الأرض من الجو والهواء أو هي كل المخلوقات من الجواهر والأعراض الموجودة قبل الآخرة قال النووي وهذا هو الأظهر ويطلق على كل جزء منها مجازا وأريد ههنا شيء من الحظوظ النفسانية كمال أو جاه و قد تكون إشارة إلى العاجل والمرأة إيماء إلى الآجل وهو الآخرة لانضمام الروحانية إلى الجسمانية في كل منهما فيفيد حينئذ أن قصد ما سوى الله تعالى فيه انحطاط تام عمن لم يقصد غير وجهه تعالى وقليل ما هم وعند محققي القوم ما تعلق دركه بالحس فهو دنيا وما تعلق دركه بالعقل فهو أخرى وفي رواية ومن كانت هجرته لدنيا أي لأجل عرضها وغرضها فاللام للتعليل أو بمعنى إلى لتقابل المقابل يصيبها أي يحصلها لكن لسرعة مبادرة النفس إليها بالجبلة الأصلية شبه حصولها بإصابة السهم للغرض والأظهر أنه حال مقدرة أي يقصد إصابتها وفيه إيماء إلا أنه لو طلب الدنيا لأن يستعين بها على الأخرى فلا يذم مع أن تركها أولى لقول عيسى عليه الصلاة والسلام يا طالب الدنيا لتبر تركك الدنيا أبر أو امرأة يتزوجها خصت بالذكر تنبيها على سبب الحديث وإن كانت العبرة بعموم اللفظ كما رواه الطبراني بسند رجاله ثقات عن ابن مسعود كان فينا رجل خطب امرأة يقال لها أم قيس فأبت أن تتزوجه حتى يهاجر فتزوجها قال فكنا نسميه مهاجر أم قيس وفيه إشارة إلى أنه مع كونه قصد في ضمن الهجرة سنة عظيمة أبطل ثواب هجرته فكيف يكون غيره أو دلالة على أعظم فتن الدنيا لقوله تعالى زين للناس حب الشهوات من النساء آل عمران ولقوله صلى الله عليه وسلم ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء لكن المرأة إذا كان صالحة تكون خير متاعها ولقوله صلى الله عليه وسلم الدنيا كلها متاع وخير متاعها المرأة الصالحة فهجرته إلى ما هاجر إليه أي منصرفة إلى الغرض الذي هاجر إليه فلا ثواب له لقوله تعالى من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وماله في الآخرة من نصيب الشورى والمعنى فهجرته مردودة أو قبيحة قيل إنما ذم لأنه طلب الدنيا في صورة الهجرة فأظهر العبادة للعقبى ومقصوده الحقيقي ما كان إلا الدنيا فاستحق الذم لمشابهته أهل النفاق ولذا قال الحسن البصري لما رأى بهلوانا يلعب على الحبل هذا أحسن من أصحابنا فإنه يأكل الدنيا بالدنيا وأصحابنا يأكلون الدنيا بالدين وقال ابن عبد السلام متى اجتمع باعث الدنيا والآخرة فلا ثواب مطلقا للخبر الصحيح أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه غيري فأنا منه بريء هو للذي أشرك وقال الغزالي يعتبر الباعث فإن غلب باعث الآخرة أثيب أو باعث الدنيا أو استويا لم يثب قال ابن حجر يؤخذ من قول الشافعي وأصحابه من حج بنية التجارة كان ثوابه دون ثواب المتخلي عنها أن القصد المصاحب للعبادة إن كان محرما كالرياء أسقطها مطلقا وهو محمل الحديث المذكور كما يصرح به لفظه أو غير محرم أثيب بقدر قصده الآخرة أخذا بعموم قوله تعالى فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره الزلزلة ا ه وهو تفصيل حسن وتعليل مستحسن هذا بلسان العلماء أرباب العبارة وأما بلسان العرفاء أصحاب الإشارة فمعناه مجملا أن أعمال ظاهر القالب متعلق بما يقع في القلوب من أنوار الغيوب والنية جمع الهم في تنفيذ العمل للمعمول له وأن لا يسنح في السر ذكر غيره وللناس فيما يعشقون مذاهب ثم نية العوام في طلب الأغراض مع نسيان الفضل والأعراض ونية الجاهل التحصين عن سوء القضاء ونزول البلاء ونية أهل النفاق التزين عند الناس مع إضمار الشقاق ونية العلماء إقامة الطاعات ونية أهل التصوف ترك الاعتماد على ما يظهر منهم من العبادات ونية أهل الحقيقة ربوبية تولت عبودية وإنما لكل امرئ ما نوى من مطالب السعداء وهي الخلاص عن الدركات السفلى من الكفر والشرك والجهل والمعاصي والسمعة والرياء والأخلاق الذميمة وحجب الأوصاف والفوز بالدرجات العلى وهي المعرفة والتوحيد والعلم والطاعات والأخلاق المحمودة وجذبات الحق والفناء عن إنابته والبقاء بهويته أو من مقاصد الأشقياء وهي إجمالا ما يبعد عن الحق فمن كانت هجرته أي خروجه من مقامه الذي هو فيه سواء كان استعداده الذي جبل عليه أو منزلا من منازل النفس أو مقاما من مقامات القلب إلى الله لتحصيل مراضيه وتحسين الأخلاق والتوجه إلى توحيد الذات ورسوله باتباع أعماله واقتفاء أخلاقه والتوجه إلى طلب الاستقامة في توحيد الصفات فهجرته إلى الله ورسوله فتخرجه العناية الإلهية من ظلمات الحدوث والفناء إلى أنوار الشهود والبقاء وتجذبه من حضيض العبودية إلى ذروة العندية ويفنى في عالم اللاهوت ويبقى بالحي الذي لا يموت ورجع إليه الأنس ونزل محله القدس بدار القرار إلى جوار الملك الغفار وأشرقت عليه سبحات الوجه الكريم وحل بقلبه روح الرضا العميم ووجد فيها الروح المحمدي وأحبابا وعرف أن له مثوى ومآبا ومن كانت هجرته لدنيا أي لتحصيل شهوة الحرص على المال والجاه أو تحصيل لذة شهوة الفرج فيبقى مهجورا عن الحق في أوطان الغربة وديار الظلمة له نار الفرقة والقطيعة نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة وأنشد بعض المخلصين لبعض المخلطين يا غافل القلب عن ذكر المنيات عما قليل ستثوى بين أموات إن الحمام له وقت إلى أجل فاذكر مصائب أيام وساعات لا تطمئن إلى الدنيا وزينتها قد حان للموت يا ذا اللب أن يأتي وكن حريصا على الإخلاص في عمل فإنما العمل الزاكي بنيات وقد ورد في مسند أبي يعلى الموصلي مرفوعا إن الله تعالى يقول للحفظة يوم القيامة اكتبوا لعبدي كذا وكذا من الأجر فيقولون ربنا لم نحفظ ذلك عنه ولا هو في صحيفتنا فيقول إنه نواه ونقل الأستاذ أبو القاسم القشيري قدس الله سره العلي أن زبيدة رؤيت في المنام فقيل لها ما فعل الله بك فقالت غفر لي فقيل لها بكثرة عمارتك الآبار والبرك والمصانع في طرق مكة وإنفاقك فيها فقالت هيهات هيهات ذهب ذلك كله إلى أربابه وإنما نفعنا منه النيات فغفر لنا بها اللهم فأحسن نياتنا ولا تؤاخذنا بدنياتنا واختم بالخير منياتنا متفق عليه أي اتفق البخاري ومسلم على روايته ويعبر عن هذا القسم بالمتفق عليه أي بما اتفق عليه الشيخان لا بما اتفق عليه الأمة لكن اتفاقها عليه لازم ذلك لاتفاقها على تلقي ما اتفقا عليه بالقبول وكذلك أخرجه الأربعة بقية الستة وقيل لم يبق من أصحاب الكتب المعتمد عليها من لم يخرجه سوى مالك ففي الجملة حديث مشهور مجمع على صحته وما ذكره ابن ماكولا وغيره من التكلم فيه لا يلتفت إليه وما قيل إنه متواتر غير صحيح فإنه لم يروه من طريق صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا عمر ولم يروه عن عمر إلا علقمة ولم يروه عن علقمة إلا محمد بن إبراهيم التيمي ولم يروه عنه إلا يحيى بن سعيد الأنصاري ثم تواتر عنه بحيث رواه عنه أكثر من مائة إنسان أكثرهم أئمة وقال جماعة من الحفاظ إنه رواه عنه سبعمائة إنسان من أعيانهم مالك والثوري والأوزاعي وابن المبارك والليث بن سعد وحماد بن زيد وسعيد وابن عيينة وقد روي هذا الحديث عن عمر تسعة غير علقمة وعن علقمة اثنان غير التيمي وعن التيمي خمسة غير يحيى فالحديث مشهور بالنسبة إلى آخره غريب بالنسبة إلى أوله ثم اعلم أن جمعا من المحدثين وغيرهم ذهبوا إلى أن جميع ما وقع مسندا في الصحيحين أو أحدهما من الأحاديث يقطع بصحته لتلقي الأمة له بالقبول من حيث الصحة وكذا العمل ما لم يمنع منه نحو نسخ أو تخصيص وإجماع هذه الأمة معصوم عن الخطأ كما قال صلى الله عليه وسلم فقبولها للخبر الغير المتواتر يوجب العلم النظري وعبارة الأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني أهل الصنعة مجمعون على أن الأخبار التي اشتمل عليها الصحيحان مقطوع بصحة أصولها ومتونها ولا يحصل الخلاف فيها وإن حصل اختلاف فلذلك اختلاف في طرقها أو رواتها فمن خالف حكمه خبرا منهما وليس له تأويل سائغ نقضنا حكمة وقال إمام الحرمين أجمع علماء المسلمين على صحتهما وقد قال عطاء الإجماع أقوى من الإسناد فإذن أفاد العلم وقال الأكثرون والمحققون صحتهما ظنية لأن أخبارهما آحاد وهي لا تفيد إلا الظن وإن تلقتها الأئمة بالقبول لأنهم تلقوا بالقبول ما ظنت صحته من غيرهما ولأن تصحيح الأئمة للخبر المستجمع لشروط الصحة إنما هو باعتبار الظاهر ولأن فيهما نحو مائتي حديث مسند طعن في صحتها فلم تتلق الأمة كلها ما فيهما بالقبول لكن بعض القائلين بالأول استثنوا هذه قال شيخ الإسلام ابن حجر العسقلاني والتحقيق أن الخلاف لفظي لأن من أطلق عليهما العلم بالصحة جعله نظريا وهو الناشئ عن الاستدلال ومن أبى هذا الإطلاق خص لفظ العلم بالمتواتر وما عداه عنده ظني واختلفوا هل يمكن التصحيح والتحسين والتضعيف في الأعصار المتأخرة واختار ابن الصلاح أنه لا يمكن بل يقتصر على ما نص عليه الأئمة في تصانيفهم المعتمدة ورده النووي وتبعوه وأطالوا في بيان رده ومن ثم صحح جماعة من معاصريه كالقطان والضياء المقدسي ثم المنذري والدمياطي طبقة بعد طبقة قيل ولعله إنما اختار حسم المادة لئلا يتطفل على ذلك بعض الجهلة قلت ومن هذا القبيل اختلافهم هل يمكن لأحد الاجتهاد المطلق في الأزمنة المتأخرة فقيل يمكن وقيل لا والخلاف لفظي لأن الإمكان أمر عقلي ومنعه أمر عادي والله تعالى أعلم كتاب الإيمان الكتاب إما مأخوذ من الكتب بمعنى الجمع أو الكتابة والمعنى هذا مجموع أو مكتوب في الأحاديث الواردة في الإيمان وإنما عنون به مع ذكره الإسلام أيضا لأنهما بمعنى واحد في الشرع وعلى اعتبار المعنى اللغوي من الفرق يكون فيه إشارة إلى أنه الأصل وعليه مدار الفصل وقدمه لزيادة شرفه في الفضل ولكونه شرطا لصحة العبادات المتقدمة على المعاملات وهو التصديق الذي معه أمن وطمأنينة لغة وفي الشرع تصديق القلب بما جاء من عند الرب فكأن المؤمن يجعل به نفسه آمنة من العذاب في الدارين أو من التكذيب والمخالفة وهو إفعال من الأمن يقال أمنت وآمنت غيري ثم يقال أمنه إذا صدقه وقيل معنى أمنت صرت ذا أمن ثم نقل إلى التصديق ويعدى باللام نحو وما أنت بمؤمن لنا وقال فرعون يوسف قال ءامنتم له طه وقد يضمن معنى اعترف فيعدى بالباء نحو يؤمنون بالغيب البقرة واختلف العلماء فيه على أقوال أولها عليه الأكثرون والأشعري والمحققون أنه مجرد تصديق النبي عليه الصلاة والسلام فيما علم مجيئه به بالضرورة تفصيلا في الأمور التفصيلية وإجمالا في الإجمالية تصديقا جازما ولو لغير دليل حتى يدخل إيمان المقلد فهو صحيح على الأصح ..............قال المدون ياتي توابع الكناب وعهدنه علي المؤبف والمحقق
( 1 )
نبذة عن الكتاب
المصابيح للبغوي جمع الأحاديث مجردة من الأسانيد، فذكر الخطيب التبريزي الصحابي الراوي وخرج الأحاديث وزاد باباً ثالثاً على الكتاب وسماه " مشكاة المصابيح " وشرحه نحو 9 علماء منهم القاري في كتابنا هذا وهو فقيه حنفي يذكر تراجم الصحابة الرواة، والفوائد اللغوية والفقهية والحديثية وفي السلوك. وطبع معه الإكمال في تراجم رجال المشكاة للتبريزي.
www.almeshkat.net/books/ index.php
بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين
مقدمة المؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي فتح قلوب العلماء بمفاتيح الإيمان وشرح صدور العرفاء بمصابيح الإيقان وأفضل الصلوات وأكمل التحيات على صدر الموجودات وبدر المخلوقات أحمد العالمين وأمجد العالمين محمد المحمود في أقواله وأفعاله وأحواله المنور مشكاة صدره بأنوار جماله وأسرار كماله وعلى آله وأصحابه حملة علومه ونقلة آدابه ما بعد فيقول أفقر عباد الله الغني الباري علي بن سلطان محمد الهروي القاري عاملها الله بلطفه الخقي وتجاوز عنهما بكرمه الوفي لما كان كتاب مشكاة المصابيح الذي ألفه مولانا الحبر العلامة والبحر الفهامه مظهر الحقائق وموضح الدقائق الشيخ التقي النقي ولي الدين محمد بن عبد الله الخطيب التبريزي أجمع كتاب في الأحاديث النبوية وأنفع لباب من الأسرار المصطفوية ولله در من قال من أرباب الحال لئن كان في المشكاة يوضع مصباح فذلك مشكاة وفيها مصابيح وفيها من الأنوار ما شاع نفعها لهذا على كتب الأنام تراجيح فيه أصول الدين والفقه والهدى حوائج أهل الصدق منه مناجيح مشايخ المؤلف تعلق الخاطر الفاتر بقراءته وتصحيح لفظه وروايته والاهتمام ببعض معانيه ودرايته رجاء أن أكون عاملا بما فيه من العلوم في الدنيا وداخلا في زمرة العلماء العاملين في العقبى فقرأت هذا الكتاب المعظم على مشايخ الحرم المحترم نفعنا الله بهم وببركات علومهم منهم فريد عصره ووحيد دهره مولانا العلامة الشيخ عطية السلمي تلميذ شيخ الإسلام ومرشد الأنام مولانا الشيخ أبي الحسن البكري ومنهم زبدة الفضلاء وعمدة العلماء مولانا السيد زكريا تلميذ العالم الرباني مولانا إسماعيل الشرواني من أصحاب قطب العارفين وغوث السالكين خواجه عبيد الله السمرقندي أحد أتباع خواجه بهاء الدين النقشبندي روح
الله روحهما ورزقنا فتوحهما ومنهم العالم العامل والفاضل الكامل العارف بالله الولي مولانا الشيخ علي المتقي أفاض الله علينا من مدده العلي النسخ التي أعتمدها لكن لكون هؤلاء الأكابر غير حفاظ للحديث الشريف ولم يكن في أيديهم أصل صحيح يعتمد عليه العبد الضعيف والشراح ما اعتنوا إلا بضبط بعض الكلمات وكانت البقية عندهم من الواضحات ما أطمأن قلبي ولا انشرح صدري إلا بأن جمعت النسخ المصححة المقروءة المسموعة المصرحة التي تصلح للاعتماد وتصح عند الاختلاف للاستناد فمنها نسخة هي أصل السيد أصيل الدين والسيد جمال الدين ونجله السعيد مير كشاه المحدثنين المشهورين ومنها نسخة قرئت على شيخ مشايخنا في القراءة والحديث النبوي مولانا الشيخ شمس الدين محمد بن الجزري ومنها نسخة قرئت على شيخ الإسلام الهروي وغيرها من النسخ المعتمدة الصحيحة التي وجدت عليها آثار الصحة الصريحة فأخذت من مجموع النسخ أصلا أصيلا ولمثوبة الألإخروية كفيلا اجازته وقد حصل لي أجازة عامة ورخصة تامة من الشيخ العلامة علي بن أحمد الجناني الأزهري الشافعي الأشعري الأنصاري وقد قال قرأت على شيخ الإسلام وإمام أئمة الأعلام الشيخ جلال الدين السيوطي كتبا من الحديث وغيره من العلوم كالبخاري ومسلم وغيرهما من الكتب الستة وغيرها البعض قراءة والبعض سماعا وقد أجازني بجميع مروياته وبما قرئ به و بما أجازه به خاتمة المحدثين مولانا الشيخ ابن حجر العسقلاني قراءة وسماعا ورواية وإجازة وعلى الشيخ القسطلاني صاحب المواهب وشارح البخاري من أجلاء تلامذه العسقلاني وأجازني بمروياته ومؤلفاته وهذا على ما يوجد من السند المعتمد في هذا الزمان المكدر المنكد ثم إني قرأت أيضا بعض أحاديث المشكاة على منبع بحر العرفان مولانا الشهير بمير كيلان وهو قرأ على رند المحققين وعمدة المدققين مير كشاه وهو على والده السيد السند مولانا جمال الدين المحدث صاحب روضة الأحباب وهو على عمه السيد أصيل الدين الشيرازي روي أنه أدرك من أكابر العلماء أحدا وثمانين منهم مولانا الشيخ محمد بن محمد بن محمد الجزري والشيخ مجد الدين الفيروزآبادي صاحب
القاموس والعلامة السيد الشريف الجرجاني وسمع منه مولانا نور الدين عبد الرحمن الجامي قدس الله سره السامي وغيره توفي سنة أربع وثمانين وثمانمائة قال أروي كتاب المشكاة عن مولانا شرف الدين الجرمي وهو يروي عن خواجه إمام الملة والدين علي بن مباركشاه الصديقي وهو يروي عن المؤلف وهذا الإسناد لا يوجد أعلى منه للاعتماد الباعث لتأليف المرقاة فلما حصلت هذه النسخة المذكورة وصححتها من النسخ المعتمدة المسطورة رأيت أن أضبطها تحت شرح لطيف على منهج شريف يضبط ألفاظه مع مبانيه ويبحث عن رواياته ومعانيه فإن همم إخوان الزمان قد قصرت ومجاهدتهم في تحصيل العلوم لا سيما في هذا الفن الشريف ضعيفت وهو متقضى الوقت الذي تجاوز عن الألف وبقي ضعف العلم والعمل بل ضعف الإيملان على ضعف والله ولي دينه وناصر نبيه وهو بكل جميل كفيل وحسبنا الله ونعم الوكيل وأيضا من البواعث أن غالب الشراح كانوا شافعية في مطلبهم وذكروا المسائل المتعلقة بالكتاب على منهاج مذهبهم واستدلوا بظواهر الأحاديث على مقتضى مشربهم وسموا الحنفية أصحاب الرأي على ظن أنهم ما يعملون بالحديث بل ولا يعلمون الرواية والتحديث لا في القديم ولا في الحديث مع أن مذهبهم القوى تقديم الحديث الضعيف على القياس المجرد الذي يحتمل التزييف نعم من رأي ثاقبهم الذي هو معظم مناقبهم أنهم ما تشبتوا بالظراهر بل دققوا النظر فيها بالبحث عن السرائر وكشفوا عن وجوه المسائل نقاب الستائر ولذا قال الإمام الشافعي الخلق كلهم عيال على أبي حنيفة في الفقه وهذا الاعتراف يدل على الاغتراف وكمال الانصاف منه رضي الله تعالى عنهما ونفعنا بعلومهما ومددهما فأحببت أن أذكر أدلتهم وأبين مسائلهم وأدفع عنهم مخالفتهم لئلا يتوهم العوام الذين ليس لهم معرفة بالأدلة الفقهية أن المسائل الحنفية تخالف الدلائل الحنيفية وسميته مرقاة المفاتيح لمشكاة المصابيح والله نعالى أسأل أن يجعله خالصا لوجهه من فضله وأن ينفع المسلمين به كما ينفعهم بأصله وفصله فأقول وبالله التوفيق وبيده أزمو التحقيق قال الشيخ رحمه الله
توجد صفحة فارغة
بسم الله الرحمن الرحيم خطبة الكتاب اقتداء بالقرآن العظيم وتخلقا بأخلاق العزيز العليم واقتفاء للنبي الكريم حيث قال كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بسم الله الرحمن الرحيم فهو أبتر أي قليل البركة أو معدومها وقيل إنه من البتر وهو القطع قبل التمام والكمال والمراد بذي البال ذو الشأن في الحال أو المآل رواه الخطيب بهذا اللفظ في كتاب الجامع واختلف السلف الأبرار في كتابة البسملة في أول كتب الأشعار فمنعه الشعبي والزهري وأجازه سعيد بن المسيب واختاره الخطيب البغدادي والأحسن التفصيل بل هو الصحيح فإن الشعر حسنة حسن وقبيحة قبيح فيصان إيراد البسملة في الهجريات والهذيان ومدائح الظلمة ونحوها كما تصان في حال أكل الحرام وشر الخمر ومواضع القاذورات وحاله المجامعة وأمثالها والأظهر انه لا يكتب في أول كتب المنطق على القول بتحريم مسائلها وكذا في القصص الكاذبة بجمخيع أنواعها والكل مستفاد من قوله ذي بال والله أعلم بحقيقة الحال ثم إنه ورد الحديث بلفظ كل كلام ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم رواه أبو داود والنسائي في عمل اليوم والليلة وبلفظ كل أمر ذي بال لا يبدا فيه بالحمد لله فهو أقطع رواه ابن ماجه والتوفيق بينهما أن المراد منهما الابتداء بذكر الله سواء يكون في ضمن البسملة أو الحمدلة بدليل أنه جاء في حديث رواه الرهاوي في أربعينه وحسنه ابن الصلاح ولفظه كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بذكر الله سواء حديث ابن الصلاح ولفظه كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بذكر الله فهو أقطع أو يحمل حديث البسملة على الابتداء الحقيقي بحيث لا يسبقه شيء وحديث الحمدلة على الابتداء الإضافي وهو ما بعد البسملة قيل ولم يعكس لأن حديث البسملة أقوى في المنهال بكتاب الله الوارد على هذا المنوال ويخطر بالبال والله أعلم بالحال أن توفيق الافتتاح بالبسملة لما كان من النعم الجزيلة ناسب أن تكون الحمدلة متأخرة عنها لتكون متضمنة للشكر على هذه
المنحة الجميلة هذا وقد يقال إن المراد بالابتداء افتاح عرفي موسع ممدود يطلق على ما قبل الشروع في المقصود كما يقال أول الليل وأول النهار وأول الوقت وأول الديار وحنيئذ لا يرد على المصنف أنه جاء في رواية كل أمر ذي بال لم يبدا فيه بذكر الله ثم بالصلاة علي فهو أقطع ممحوق من كل بركة أخرجه الرهاوي عن أبي هريرة مرفوعا وإن قيل بضعفه وجاء في رواية الترمذي وحسنه عن أبي هريرة مرفوعا كل خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذماء على رواية ضم الخاء وهو الظاهر من صنيع الترمذي حيث أورده في باب خطبة النكاح وكذا يفهم من اعتراض الشيخ ابن حجر العسقلان على البخاري في تركه الشهادة أول كتابه مع أنه قد يجاب عنه بعدم صحة الحديث عنده أو بأن روايته كسر الخاء لا ضمه والله أعلم ثم الباء جاء لأربعة عشر معنى والمناسب ههنا منها الإلصاق والاستعانة وهي متعلقة بمقدر وأخر على المختار تحقيقا لحقيقة الابتداء وتعظيما للاسم الخاص عن الانتهاء وإقادة للاهتمام وإرادة لمقام الاختصاص الذي هو المرام ورد لدأب المشركين حيث كانوا يبتدئون بالأصنام ويفتتحون بذكر الله في بعض الكلام لكن قال العارف الجامي حقيقة الابتداء باسمه سبحانه عند العارفين أن لا يذكر باللسان ولا يخطر بالجنان في الابتداء غير اسمه سبحانه ولا اثباتا ولا نفيا فإن صورة نفي الغير ملاحظة للغير فهو أيضا ملحوظ في الابتداء فلس الابتداء مختصا باسمه سبحانه فلا حاجة إلى تقدير المحذوف مؤخرا إلا ان يكون اسم الله سبحانه في التقدير أيضا مقدما كما أنه في الذكر مقدم ه والمعنى باسم الله ابدا تصنيفي أو ابتدائي في جميع أموري متبركا باسمه ومستعينا برسمه والاسم من الأسماء التي بنى أوائلها على السكون فعند الابتداء بها يزيدون همزة الوصل والأصح أنه من الأسماء المحذوفة العجز كيد ودم بدليل تصاريفه من سميت ونحوه واشتقاقه بهمزة من السمو وهو العلو لأن التسمية تنويه بالمسمى ورفع لقدره وعند الكوفية أصله وسم وهو العلامة لأنه علامة دالة على المسمى فحذف حرف العلة تخفيفا ثم أدخلت عليه همزة الوصل وسقطت كتابتها في البسملة المختصة بالجلالة على خلاف رسم الخط لكثرة الاستعمال الكتبي وطولت الباء دلالة عليها قبل ذكر الاسم فرقا بين اليمين والتيمن وقيل الاسم صلة وهو إن أريد به اللفظ فلا يصح القول بأنه عين المسمى وإن أريد به ذات الحق الوجود المطلق إذا اعتبر مع صفة معينة كالرحمن مثلا هو الذات الإلهية مع صفة الرحمة والقهار مع صفة القهر فهو عين المسمى بحسب التحقيق والوجود وإن كان غيره بحسب التعقل والأسماء الملفوظة هي أسماء هذه الأسماء والإضافة لامية والمراد بعض
أفراده التي من جملتها الله والرحمن والرحيم أو يراد به هذه الأسماء بخصوصها بقرينة التصريح بها ويمكن أن تكون الإضافة بيانية بناء على ما تقدم هكذا قاله بعض المحققين واعلم أن هذه المسألة قد اختلف على مذاهب أحدهما أن الاسم عين المسمى والتمسية وثانيهما وهو المنقول عن الجهمية والكرامية والمعتزلة غيرهما قال العلامة العز ابن جماعة هو الحق وثالثها عين المسمى وغير التسمية وهو المصحح عند بعض الحنفية وهو المراد بقول القائل وليس الاسم غيرا للمسمى ورابعها لا عين ولا غير والثالث هو المنقول عن الأشعري لكن في اسم الله تعالى أعنى كلمة الجلالة خاصة لأن مدلول هذا الاسم الذات من حيث هي بخلاف غيره كالعالم فمدلوله الذات باعتبار الصفة وقد نبه الإمام الرازي والآمدي على أنه لا يظهر في هذه المسألة ما يصلح محلا لنزاع العلماء والله أعلم وفي التعرف أجمعوا أن الصفات ليست هي هو ولا غيره وأجمعوا أنها لا تتغاير وليس علمه قدرته ولا غير قدرته ولا قدرته علمه ولا غير علمه وكذلك جميع صفاته من السمع والبصر وغيرهما واختلفوا في الأسماء فقال بعضهم أسماء الله تعالى ليست هي الله ولا غير الله كما قالوا في الصفات وقال بعضهم أسماء الله هي الله والله أعلم ثم اعلم أنه تحير العلماء في تدقيق اسم الله كما تحير العرفاء في تحقيق مسماه سبحان من تحير في ذاته سواه فقيل إنه عبري لأن أهل الكتاب كانوا يقولون الاها فحذفت العرب الألف الأخيرة للتخفيف كما فعلوا في النور والروح واليوم فإنها في اللغة العبرانية كانت نورا وروحا ويوما وهذا وجه من قال إنه معرب والحق أنه عربي لأن ما ذكروه من توافق اللغتين لا يدل على كون إحداهما متأخرة عن الأخرى مأخوذة عنها ثم اختلفوا أسم هو أم صفة مشتق وعليه الأكثر أو غير مشتق علم أو غير علم وما أصله على تقدير اشتقاقه ومختار صاحب الكشاف أنه كان في الأصل اسم جنس ثم صار علما وأن أصله الإله وإنه مشتق من إله بمعنى تحير فالله متحير فيه لأنهم لا يحيطون به علما وحكى سيبويه والمبرد عن الخليل أن الله اسم خاص علم لله غير مشتق من شيء وليس بصفة فعلى هذا يكون جامعا لأسمائه ونعوته وصفاته وقيل إنه مأخوذ من الهت إلى فلان إذا فزمعت إليه عند الشدائد قال ألهت إليكم في بلايا تنوبني فألفيتكم فيها كريما ممجدا فإن الخلق يفزعون إليه عند الشدائد أو من أله الفضيل إذا ولع بأمه لأن العباد يولهون به وبذكره وقيل من تألهت أي تضرعت فالإله هو الذي يتضرع إليه وقيل من قولهم لاه يلوه لوها ولاها إذا احتجب وارتفع قال لاه ربي عن الخلائق طرا فهو الله لا يرى ويرى هو
وقيل من ألهت بالمكان إذا قمت به ومعناه الذي لا يتغير عن صفته كما أن المقيم لا يتحول عن بقعته ومنه قول الشاعر لهنا بدار لا تبين رسومها كأن بقاياها وشام على الأيدي وقيل الإله أصله ولاه فهو من الوله كما قيل في اسادة واشاح واجوه وسادة ووشاحد ووجوه ومعناه أن العباد يولهون عند ذكر الإله أي يطربون منه ومنه قول الكميت ولهت نفسن الطروب إليكم ولها حال دون طعم الطعام وقيل الوله المحبة الشديدة وقيل مشتق من إله بمعنى عبد فالإله فعال بمعنى المعبود كالكتاب بمعنى المكتوب ويدل عليه قراءة ابن عباس ويذرك والاهتك أي عبادتك ثم قال سيبويه الأصل في قولنا الله إله فما حذفت همزته عوضت في أوله الألف واللام عوضا لازما فقيل الله وقال المبرد الأصل في لاه لوه على وزن دور فقلبوا الواو ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها فصار لاه على وزن دار ثم أدخلوا عليه لام التعريف وقال أبو الهيثم الرازي الأصل في الله هو الإله خففت الهمزة بإلفاء حركتها على اللام الساكنة قبلها وحفت فصارت اللاه ثم أجريت الحركة العارضة مجرى الأصلية وأدغمت اللام الأولى في الثانية قيل ههنا إشكال صرفي وهو أنه إن نقلت حركة الهمزة إلى ما قبلها أولا على ما هو القياس ثم حذفت فيلزم أن يكون وجوب الإدغام غير قياسي لما تقر في محله من أن المثلين المتحركين لا يجب فيهما الإذغام إ ذا كانا من كلمتين نحو ما سلككم ومناسككم وإن حذفت الهمزة مع حركتها فيلزم مخالفة القياس في تخيفيها وإن كان لزوم الإدغام على القياس ومن ثم قيل هذا الاسم خارج عن متقضى القياس في تخفيفها وإن كان لزوم الإدغام على القياس ومن ثم قيل ها الاسم خارج عن متقضى القياس كما أن مسماه خارج عن دائرة قياس الناس وأجبيب باختيار الأول ومنع كون الإدغام في كلمتين بأنه لما جعل اللام عوضا عن الهمزة وصار بمنزلتها صار كأنه في كلمة واحدة على أنه يجوز أن يكون وجوب الإدغام بعد العلمية فيكون الاجتماع في كلمة واحدة قطعا قلت التحقيق أنه كما أن النقل فيه قياس غير مطرد فكذلك الإدغام في كلمتين ويكفي جوازه ولا يحتاج إلى وجوبه مع أن الإذغام في كلمتين اتفق عليه القراء في قوله لا تأمنا يوسف والحق أنه نظير قوله تعالى لكنا هو الله ربي الكهف فإن الأصل لكن أنا فحولوا الفتحة إلى ما قبلها من النون فاجتمعت نونان متحركتان فأسكنوا الأولى وأدغموها في الثانية وهذا القول محكي عن الفراء وقيل الأصل فيه هاء الكناية عن الغائب وذلك أنهم أثبتوا موجوجا في نظر عقولهم وأشاروا إليه بحرف الكناية ثم زادوا فيه لام الملك لما علموا أنه خالق الأشياء ومالكها فصار له ثم قصروا الهاء وأشبعوا فتحة اللام فصار لاه وخرج عن معنى الإضافة إلى الاسم المفرد فزيدت فيه الألف واللام للتعريف تعطيما وفخموه تأكيدا لهذا المعنى فصار الله كما ترى وهذا أقرب
بإشارات الصوفية من تحقيق اللغة العربي وقيل ليس هو بمشتق بل هو علم ابتداء لذاته المخصوصة من غير ملاحظة معنى من المعاني المذكورة ويلائم هذا المذهب ما ذكره بعض العارفين من أنه اسم للذات الإلهية من حيث هي على الإطلاق لا باعتبار اتصافها بالصفات ولا باعتبار لا اتصافها بها ولذا قال الجمهور إنه الاسم الأعظم قال القطب الرباني الشيخ عبد القادر الجيلاني الاسم الأعظم هو الله لكن بشرط أن تقول الله وليس في قلبك سواه وقد خص هذا الاسم بخواص لا توجد في غيره كما ذكره أهل العربية منها أنه تنسب سائر الأسماء إليه ولا ينسب هو إلى شيء منها ومنها أنه لم يسم به أحد من الخلق بخلاف سائر الأسماء ومنها أنهم ألزموه الألف اللام عوضا لازما عن همزته ولم يفعل ذلك في غيره ومنها أنهم قالوا يا الله فقطعوا همزته ومنها أنهم جمعوا بين يا التي للنداء وبين الألف واللام ولم يفعل ذلك في غيره حال سعة الكلام ومنها تخصيصهم إياه في القسم بإدخال التاء وأيمن وأيم في قولهم تالله وأيمن الله وأيم الله ومنها تفتخيم لامه إذا انفتح ما قبله أو انضم سنة ورثتها العرب كابرا عن كابر وتواتر نقل عن القراء عن رسول اله صلى الله عليه وسلم وحذف ألفه لحن تفسد به الصلاة و الرحمن فعلان من رحم كغضبان من غضب على أنه صفة مشبهة بجعل الفعل المتعدي لازما فينقل إلى فعل العين فيشتق منه الصفة المشبهة وأما الرحيم فإن جعل صيغة مبالغة كما نص عليه سيبويه في قولهم هو رحيم فلا إشكال وإن جعل من الصفات المشبهة كما يشعر به كلام الكشاف فالوجه ما ذكر في الرحمن ثم في الرحمن زيادة مبالغة من الرحيم لأن زيادة المبني تدل على زيادة المعنى وهي إما بحسب شموله للدارين واختصاص الرحيم بالدنيا كما وقع في بعض الآثار يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيم الدنيا وإما بحسب كثرة أفراد المرحومين وقلتها كما ورد يا رحمن الدنيا ورحيم الأخرة وإما بحسب جلالة النعم ودقتها وبالجملة ففي الرحمن مبالغة في معنى رحمن الدنيا والآخرة ورحميهما لجواز حملهما على الجلائل والدقائق وقيل رحمة الرحمن تتعلق بالمؤمن والكافر في الدنيا ورحمة الرحيم تختص بالمؤمنين في العقبى ولا يجوز إطلاق الرحمن على غيره تعالى بخلاف الرحيم قال تعالى لقد جاءكم رسول الله من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم التوبة ولذا قيل الرحمن
خاص اللفظ عام المعنى والرحيم عام اللفظ خاص المعنى ثم الرحمة في اللغة رقة القلب وانعطاف يقتضي التفضل والإحسان وهي من الكيفيات التابعة للمزاج والله سبحانه منزه عنها فإطلاقها عليه سبحانه إنما هو باعتبار الغايات التي هي أفعال دون المبادئ التي هي من الانفعالات فهي عبارة عن الإنعام فتكون من صفات الأفعال أو عن إرادة الإحسان فتكون من صفات الذات فإن كل واحد منها مسبب عن رقة القلب والانعطاق فتكون مجازا مرسلا من باب إطلاق السبب على المسبب وقدم الرحمن على الرحيم مع أن القسا الترقي في الصفات من الأدنى إلى الأعلى بناء على الرحيم كالتتمة والرديف للرحمن أو لزيادة شبهه بالله حيث اختص به سبحانه حتى قيل إنه علم له أو لتقدم رحمة الدنيا وفي الاكتفاء بهاتين الصفتين من صفات الجمخال وعدم ذكر صفة من صفات الجلال إشعار بقوله تعالى في الحديث القدسي غلبت رحمتي غضبي وفي الختم بالرحيم إيماء بحسن خاتمة المؤمنين وأن العاقبة للمتقين بعد حصول رحمته لعموم الخلق أجمعين الحمد لله قيل الحمد والمدج والشكر ألفاظ مترادفة والمحققون بينها يفرقون ويقولون إن الحمد هو الثناء باللسان على الجميل الاخيتاري من نعمة وغيرها والمدح يعم الاختياري وغيره ولذا يقال مدحته على حسنة ولا يقال حمدته عليه والشكر فعل ينبئ عن تعظيم المنعم بمقابلة النعمة سواء يكون باللسان أو الجنان والأركان فمورد الحمد خالص ومتعلقة عام والشكر بخلافة وحقيقة الشكر ما روي عن الجنيد أنه صرف العبد جميع ما أنعم الله به عليه إلى ما خلق لأجله ورفعه بالابتداء وخبره لله وأصله النصب وقرئ به وإنما عدل به إلى الرفع دلالة على الدوام والثبات وقرئ بإتباع الدال اللام وبالعكس تنزيلا لهما لكثرة استعمالها معا منزلة كلمة واحدة ثم الجملة خبرية لفظا انشائية معنى قائلها بها حامدا ولو كانت خبرية معنى لم يسم إلا مخبرا ومعلوم أنه لا يشتق للمخبر اسم فاعل من ذلك الشيء إذ لا يقال لمن قال الضرب مؤلم ضارب فإن قيل جاز أن يعد الشرع المخبر يثبوت الحمد له تعالى حامدا أجبيب بأنه خلاف الأصل والأصل عدمه واللام للاستغراق أي كل حمد صدر من كل حامد فهو ثابت الله أو للجنس ويستفاد العموم من لام الاختصاص وعلى التقديرين فجميع أفراد الحمد مختص له تعالى حقيقة وإن كان قد يوجد بعضها لغيره صورة أو الحمد مصدر بمعنى الفاعل أو المفعول أي الحامدية والمحمودية ثابتان له تعالى فهو الحامد وهو المحمود أو للعهد فإن حمده لائق له ولذا أظهر العجز أحمد الخلق عن حمده وقال لا أحصي ثناء عليك انت كما أثنيت على نفسك نحمده استئناف فأولا أثبت الحمد له بالجملة الاسمية
الدالة على الثبوت والدوام سواء حمد أو لم يحمد فهو إخبار متضمن للإنشاء وثانيا أخبر عن حمده وحمد غيره معه بالجملة الفعلية التي للتجدد والحدوث بحسب تجدد النعماء وتعدد الآلاء وحدوثها في الآناء أو المراد نشكره إما مطلقا أو على توفيق الحمد سابقا ونسعينه أي في الحمد وغيره من الأمور الدنيوية أو الأخروية فيكون تبريا من الحول والقوة النفسية وفيه إشارة إلى رد القدرية كما أن فيما ردا على الجبرية ولم يقل وإياه نستعين لأن مقام الاختصاص لا يدركه إلا الخواص ولذا قال ابن دينار لولا وجوب قراءة الفاتحة لما قرأتها لعدم صدقي فيها ويستغفره أي من السيئات والتقصيرات ولو في الحمد والاستعانة وسائر العبادات ونعود بالله أي نلتجئ ونعتضم بعونه وحفظه من شرور أنفسنا أي من ظهور السيئات الباطنية التي جبلت الأنفس عليها قيل منها الحمد مع الرياء والسمعة وكذا مع إثبات الحول والقوة ومن سيئات أعمالنا أي من مباشرة الأعمال السيئة الظاهرة التي تنشأ عنها وفيه اعتراف بأن البواطن والظواهر مملوءة من العيوب ومحشوة من الذنوب ولذا قيل وجودك ذنب لا يقاس به ذنب قيل منها التصيف بلا إخلاص وعدم رؤية التوفيق والاختصاص ولولا حفظه تعالى مع توفيقه لما استقام أحد على طريقه لولا الله ما أهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا من يهده الله أي من يرد الله هدايته الموصلة إليه وعنايته المقربة لديه فلا مضل له أي فلا أحد يقدر على إضلاله من المضلين من شياطين الإنس والجن أجمعين ومن يضلل أي من يرد الله جهالته وعن الوصول إلى الحق ضلالته فلا هادي له أي فلا أحد يقدر على هدايته من الهادين من الأنبياء والمرسلين قال الله تعالى إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمتهدين القصص وفيه إيذان بأن الأمر كله لله وليس لما سواه إلا ما قدر له وقضاه من الكسب والاختيار وربك يخلق ما يشاء ويختار القصص ولظهور قصور عقولنا الفانية عن إدراك أسرار الحكم البالغة الباقية قال علي كرم الله وجهه لا يظهر سر القضاء والقدر إلا يوم القيامة ثم اعلم أن الضمير البارز ثابت في يهده وأما في يضلل فغير موجود في أكثر النسخ وهو عمل بالجائزين والأول أصل وفيه وصل والثاني فرع وفيه فصل وفيه نكته أخرى لا تخفى على أرباب الصفا وأشهد أي أعلم وأبين أن لا إله أي لا معبود أو لا مقصود او لا موجود في نظر أرباب الشهود إلا الله أي الذات الواجب الوجود صاحب الكرم والجود قال الطيبي أفرد الضمير في مقام التوحيد لأنه إسقاط الحدوث وإثبات القدم فأشار أولا إلى التفرقة وثانيا إلى الجمع ه وقد يقال إن الأفعال المتقدمة أمور ظاهرية يحكم بوجودها على الغير أيضا
بخلاف الشهادة فإنه أمر قلبي غيبي لا يعلم بحقيقته إلا هو شهادة مفعول مطلق موصوف بقوله تكون أي بخلوصها للنجاة أي الخلاص من العذاب في الدارين على تقدير الاكتفاء بها وسيلة أي سببا لا علة ولرفع الدرجات أي العاليات في الجنان الباقيات كفيلة أي متضمنة ملتزمة والمعنى أن الشهادة إذا تكررت وانتجت ارتكاب الأعمال الصالحة واجتناب الأفعال الطالحة صارت سببا لعلو الدرجات وكانت مانعة عن الوقوع في الدركات وبما قررناه اندفع ما يرد على المصنف من أن دخول الجنة بالإيمان ورفع الدرجات بالأعمال ولكون التوفيق على هذا السبب ومن فضله لا ينافي قوله عليه الصلاة والسلام لن ينحى أحد بعمله وأشهد أن محمدا هو في الأصل اسم مفعول من حمد مبالغة حمد نثل من الوصفية إلى الاسمية سمي به والأسماء تنزل من السماء لوصوله إلى المقام المحمود الي يحمده الأولون والآخرون عبده إضافة تشريف وتخصيص إشارة إلى كمال مرتبته في مقام العبودية بالقيام في أداء حق الربوبية وقدمه لأنه أشرف أوصافه وأعلاها وأفضلها وأغلاها ولذا ذكره الله تعالى بهذا الوصف في كثير من المواضع فقال سبحان الذي أسرى بعبده الإسراء تبارك الذي نزل الفرقان على عبده الفرقان فأوحى إلى عبده ما أوحى النجم ولله در القائل لا تدعني إلا بيا عبديا فإنه أشرف أسمائيا وما أحسن قول القاضي عياض ومما زادني عجبا وتيها وكدت بأخمصي أطأ الثريا دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا ورسوله إشارة إلى أعلى مراتب القرب وأولى منازل الحب وهو الفرد الأكمل والواصل إلى المقام الأفضل وفي الجمع بين الوصفين تعريض للنصارى حيث غلوا في دينهم وأطروا في مدح نبيهم ثم قيل النبي والرسول مترادفان والأصح أن النبي إنسان ذكر حر من بني آدم أوحي إليه بشرع وإن لم يؤمر بتبليغه فإن أمر به فرسول أيضا فالأول أعم من الثاني فكل رسول نبي ولا عكس وذكر الأخص في هذا المقام أنص على معنى المرام الذي بعثه أي الله كما في نسخة أي أرسله إلى الثقلين وقيل إلى الملائكة أيضا وقيل إلى سائر الحيوانات وقيل إلى جميع المخلوقات كما يدل عليه خبر مسلم وأرسلت إلى الخلق كافة وطرق حال الإيمان من الأنبياء والكتب والعلماء قد عفت آثارها أي اندرست أخبارها والجملة حالية والمعنى أن الله تعالى أرسله وأظهره في حال كمال احتياج الناس
إليه عليه الصلاة والسلام فإنهم كانوا في غاية من الضلالة ونهاية من الجهالة إذ لم يكن حينئذ على وجه الأرض من يعرفها إلا أفراد من أتباع عيسى عليه الصلاة والسلام استوطنوا زوايا الخمول ورؤوس الجبال وآثروا الوحدة والأفول عن الخلق بالاعتزال وخبت أنوارها أي خفيت وانطفأت بحيث لا يمكن اقتباس العلم المشبه بالنور كما في كمال الظهور ووهنت أي ضعفت حتى انعدمت أركانها من أساس التوحيد والنبوة والإيمان بالبعث والقيامة وقيل المراد الصلوات والزكوات وسائر العبادات وجهل بصيغة المجهول مكانها مبالغة في ظهور ظلمة الجهل وغلبة الفسق وكثرة الظلم وقلة العدل فشيد أي رفع وعلى وأظهر وقوى بما أعطيه من العلوم والمعارف التي لم يؤتها أحد مثله فيما مضى صلوات الله أي أنواع رحمته وأصناف عنايته نازلة عليه وفائفة لديه ومتوجهة إليه وفي نسخة منسوبة إلى السيد عفيلف الدين زيادة وسلامه عليه يعني جنس السلامة من كل آفة في الدارين وهي جملة معترضة إخبارية أو دعائية وهي الأظهر من معالمها جمع المعلم وهو العلامة ما عفا ما موصولة أو موصوفة مفعول شيد ومن بيانية متقدمة والمعنى أظهر وبين ما اندرس وخفي من آثار طرق الإيمان وعلامات أسباب العرفان والإيقان وشفى عطف على شيد من العليل بيان مقدم لمن رعاية للسجع في تأييد كلمة التوحيد أي تأكيده وتقويته ونصرته وإعانته متعلق بشفى ومفعوله قوله من كان على شفا أي وخلص من كان قريبا من الوقوع في حفرة الجحيم والسقوط في بئر الحميم إشارة إلى قوله تعالى وكنتم على شفا أي طرف حفرة من النار فانقذكم منها آل عمران وقيل من للتبعيض أي أبرأ من جملة المعلولين من كان على إشراف من الهلاك إيماء إلى أنه طبيب العيوب وحبيب القلوب وفي الكلام صنعة جناس وهو تشابه الكلمتين لفظا وصنعه طباق وهو الجمع بين الضدين في الجملة وأغرب السيد جمال الدين حيث قال والعليل بعين مهملة في أصل سماعنا وجميع النسخ الحاضرة ويجوز أن يقرأ بغين معجمة ويكون من الغل بمعنى الحقد ووجه غرابته إما لفظا فلفوت المناسبة بين الشفاء والعلة وإما معنى فلذهاب عموم العلل المستفاد من جنس العليل واقتصاره على علة الحقد فقط مع عدم ملاءمته للمقام وأوضح سبيل الهداية أي بين وعين طريق الاهتداء إلى المطلوب وسبيل الوصول إلى المحبوب لمن أراد أن يسلكها والسبيل يذكر ويؤنث أي لمن طلب وشاء من نفسه أن يدخل فيها وإرادة العبد تابعة لإرادة الله تعالى وما تشاؤون إلا أن يشاء الله الإنسان وأظهر كنوز السعادة أي المعنوية وهي المعارف والعلوم والأعمال العلية والأخلاق والشمائل والأحوال البهية المؤدية إلى الكنوز الأبدية والخزائن السرمدية لمن قصد أن يملكها أي بملكه يتوصل بها إلى ملكها ويتوسل بها إلى ملكها قال تعالى وإذا رأيت ثم رأيت نعيما أي كثيرا
وملكا كبيرا الإنسان وفي قوله أراد وقصد إشارة إلى ما قال بعض المشايخ لا بد من السعي ولا يحصل بالسعي ووجه التخصيص أنهم المنتفعون بالإيضاح والإظهار كقوله تعالى هدى للمتقين البقرة ثم قيل يرد عليه بناء على النسخة المشهورة في الاكتفاء بالصلاة دون السلام ما نقله النووي عن العلماء من كراهة إفراد أحداهما عن الآخر لكن يحتمل أن محل الكراهة فيمن اتخذه عادة وهو ظاهر أو يحمل على أنه جمع بينهما بلسانه واقتصر على كتابه أحدهما وهذا بعيد أو الكراهة بمعنى خلاف الأولى لإطلاقها عليه كثرا وهو الأولى أما بعد أتى به اقتداء به عليه الصلاة والسلام وبأصحابه فإنهم كانوا يأتون به في خطبهم للانتقال من أسلوب إلى آخر ويسمى فصل الخطاب قيل أول من قال به داود عليه الصلاة والسلام وأما التفصيل المجمل وهو كلمة شرط محذوف فعله وجوبا وبعد من الظروف الزمانية متعلق بالشرط المحذوف وهو مبني على الضم لقطعه عن الإضافة والمضاف إليه منوي والتقدير مهما يذكر شيء من الأشياء بعد ما ذكر من البسملة والحمدلة والصلاة والثناء فإن التمسك بهديه أي التشبت والتعلق بطريقة عليه الصلاة والسلام لا يستتب بتشديد الموحدة أي لا يستقيم ولا يستمر أو لا يتهيا ولا يتأتي إلا بالاقتفاء أي بالاتباع التام لما صدر أي ظهر من مشكاته أي صدره أو قلبه أو فمه والأول أظهر فإن المشكاة لغة هي الكوة في الجدار الغير النافذ يوضع فيها المصباح استعيرت لصدره عليه الصلاة والسلام لأنه كالكوة ذو وجهتين فمن جهة يقتبس النور من القلب المستنبر ومن أخرى يفيض ذلك النور المقتبس على الخلق وشبهت اللطيفة القدسية التي هي القلب بالمصباح المضيء ثم الكل مأخوذ من قوله تعالى الله نور السموات والأرض مثل نوره قيل نور محمد كمشكوة فيها مصباح النور هذا ويحتمل أن يرجع الضمير في هديه إلى الله تعالى والمراد بهديه توحيده ويؤيده عطف قوله الآتي والاعتصام بحبل الله عليه غايته أنه وضع الظاهر موضع الضمير دفعا للتوهم وتبعا للوارد في قوله تعالى واعتصموا بحبل الله آل عمران وعكس في الأول لظهوره ودلالة المقام عليه فلو بين الضمير بالتصريح لكان أولى سيما مع وجود الفصل بفصل الخطاب والله أعلم بالصواب والاعتصام بالنصب ويجوز رفعه أي التمسك بحبل الله وهو القرآن لما ورد القرآن حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض شبه به لأنه يتوسل به إلى المقصود ويحصل به الصعود إلى مراتب السعود
وفيه إشارة إلى أنه قابل للتعلي والتدلي ولذا ورد في الحديث القرآن حجة لك أو عليك فهو كالنيل ماء لمحجوبين قال تعالى يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا البقرة وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا الإسراء لا يتم أي لا يكمل الاعتصام بالكتاب إلا ببيان كشفه أي من السنة النبوية والإضافة بيانية قال تعالى لتبين للناس ما نزل إليهم النحل ولا خفاء في الإجمالات القرآنية والبيينات الحديثية فإن الصلاة مجملة لم يبين أوقاتها وأعدادها وأركانها وشرائطها وواجباتها وسننها ومكروهاتها ومفسداتها إلا السن وكذا الزكاة لم يعلم مقدارها وتفاصيل نصابها ومصارفها إلا بالحديث وكذا الصوم والحج وسائر الأمور الشرعية والقضايا والأحكام الدينية وتمييز الحلا والحرام وتفاصيل الأحوال الأخروية فعليك بالكتاب والسنة وإجماع الأمة بالاجتناب عن طريق أرباب الهوى وأصحاب البدعة لتكون من الفرقة الناجية السالكة طريق المتابعة على وجه الاستقامة ولله در القائل كل العلوم سوى القرآن مشغلة إلا الحديث وإلا الفقه في الدين العلم متبع ما فيه حدثنا وما سوى ذاك وسواس الشياطين وما قاله بعض الصوفية من أن حدثنا باب من أبواب الدنيا مراده أنه إذا لم يرد به مرضاه المولى ولذا قال بعض العلماء المحديثن طلبنا العلم لغير الله فأبي أن يكون إلا لله وقيل لأحمد بن حنبل إلى متى العلم فأين العمل قال علمنا هذا هو العمل وقد روى ابن عباس عن علي كرم الله وجهه أنه عليه الصلاة والسلام خرج بوما من الحجرة الشريفة وقال اللهم راحم خلفائي قلنا من خلفاؤك يا رسول الله قال خلفائي الذين يروون أحاديثي وسنني ويعلمونها الناس وفي صحيح البخاري أن جابر بن عبد الله الأنصاري ارتحل من المدينة مسافة شهر لتحصيل حديث واحد وكان كتاب المصابيح قيل أحاديثه أربعة آلاف وأربعمائة وأربعة وثلاثون حديثا وزاد صاحب المشكاة ألفا وخمسمائة وأحد عشر حديثا فالمجموع خمسة آلاف وتسعمائة وخمسة وأربعون وينضبط بستة آلاف إلا كسر خمس وخمسين الذي صنفه فقيها من أصحاب الوجوه قال بعض مشايخنا ليس له قول ساقط وكان ماهرا في علم القراءة عابدا زاهدا جامعا بين العلم والعمل على طريقة السلف الصالحين كان يأكل الخبز وحده بلا إدام فعدل عن ذلك لكبره وعجزه فصار يأكله بالريت وقيل بالزبيت وقد روى عنه الحديث جماعة من الأكابر كالحافظ أبي موسى المديني والشيخ أبي النجيب السهروردي
عم صاحب العوارف وله غير المصابيح تصانيف مشهورة كشرح السنة في الحديث وكتاب التهذيب في الفقه ومعالم التنزيل في التفسير محيي السنة أي الأدلة الحديثية من أقواله وأفعاله وتقريره وأحواله عليه الصلاة والسلام روي أنه لما جمع كتابه المسمى بشرح السنة رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال له أحياك الله كما أحييت سنتي فسار هذا اللقب علما له بطريق الغلبة توفي سنة ست عشرة وخمسمائة بمرو ودفن عند شيخه واستاذه القاضي حسين المروزي فقيه خراسان قامع البدعة أي قاطعها ودافع أهلها أو مبطلها ومميتها أبو محمد كنيته الحسين اسمه وهو مرفوع على أنه بدل أو عطف بيان ابن مسعود نعته الفراء بالجر نعت لأبيه وهو الذي يشتغل الفرو أو يبيعه وهو غير الفراء النحوي المشهور على ما توهم بعضهم فإنه ينقل عنه في تفسيره البغوي بالرفع ويجوز جزه منسوب إلى بغ وقيل إلى بغشور قرية بين مرو وهراة في حدود خراسان والاسم المركب تركيبا مزجيا بنسب إلى جزئه الأول كمعدي في معدي كرب وبعل في بعلبك وإنما جاءت الواو في النسبة إجراء للفظة بغ مجرى محذوف العجز كالدموي ولئلا يلتبس بالبغي بمعنى الزاني وقيل إنه منسوب على خلاف القياس رفع الله درجته وأسبغ عليه رحمته والجملة دعائية إيماء إلى قوله تعالى يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات المجادلة اجمع كتاب خبر كان صنف أي ذلك الكتاب في بابه أي في باب الحديث فإنه جمع الأحاديث المهمة التي لا يستغني عنها سالك طريق الآخرة ولو كان من الأئمة على ترتيب أبواب الكتب الفقهية ليسهل الكشف ويفسر بعض الأحاديث بعضها الإجمالية وتتبين المسائل الخلافية بمقتضى الدلالات الحديثية وأضبط عطف على أجمع لأنه لما جرد عن الأسانيد وعن اختلاف الألفاظ وتكرراها في المسانيد صار أقرب إلى الحفظ والضبط وأبعد من الغلط والخبط لشوارد الأحاديث جمع شاردة وهي النافرة والذاهبة عن الدرك من باب إضافة الصفة إلى الموصوف وأبداها عطف تفسير أي وحشياتها شبهت الأحاديث بالوحوش لسرعة تنفرها وتبعدها عن الضبط والحفظ ولذا قيل العلم صيد والكتابة قيد ولما سلك أي البغوي رضي الله عنه جملة معترضة دعائية أي سلك في مسلك تصنيفة هذا طريق الاختصار أي بالاكتفاء على متون الأحاديث على وجه الاقتصار وحذف الأسانيد عطف على سلك وقيل مصدر مضاف عطف على طريق وهو على الوجهين
عطف تفسير والمراد بالاسناد إما حذف الصحابي وترك المخرج في كل حديث وهو مجاز من باب إطلاق الكل على البعض أي طرفي الإسناد وهو مراد المصنف ظاهرا من قوله لكن ليس ما فيه أعلام كالأغفال وإما معناه الحقيقي على مصطلح أهل الحديث وهو حكاية طريق متن الحديث بحيث يعلم رواته ثم إنه إنما حذفها لعدم الفائدة في ذكرها لأن المقصود منها أن يعلم عند التعارض راجح الحديث من مرجوحه وناسخة من منسوخه بسبب زيادة عدالة الرواة وتقدم بعضهم على بعض ونحو ذلك من الأمور التي لا بد للمجتهد منها ولما عدم المجتهدون في هذه الأعصار وندر وجودهم في الأمصار ووضع هذا الكتاب للصلحاء الأبرار لم يكن في ذكرها نفع كثير فاقتصر على بيان الصحة والحسن إجمالا بقوله من الصحاح والحسان إكمالا تكلم فيه جواب لما أي طعن في بعض أحاديث كتابه بعض النقاد بضم النون وتشديد القاف أي العلماء الناقدين المميزين بين الصحيح والضعيف كذا ذكره بعض الشراح وهو غير صحيح لأن الطعن في رجال الحديث لا يكون إلا بإسناده وهو لا يختلف بذكره وعدم ذكره اللهم إلا لما وجد الطاعن فيه مطعنا ويؤيده قوله وإن كان ثقة الخ وحينئذ يكون معنى الكلام وإن كان اعتراض ذلك البعض مدفوعا عنه لكونه ثقة وإذا نسب الحديث إلى الأئمة المخرجين المرودين للحديث مع الإسناد بقوله الصحاح ما فيه حديث الشيخين أو أحدهما وإلحان ما فيه أحاديث سائر السنن فهو في حكم الإسناد وقال السيد جمال الدين أي تكلم في حقه واعترض عليه بعض المبصرين بأن صحة الحديث وسقمه متوقفة على معرفة الإسناد فإذا لم يذكر لم يعرف الصحيح من الضعيف فيكون نقصا وغن كان نقله أي نقل البغوي بلا إسناد والواو وصلية وإنه من الثقات أي المعتمدين في نقل الحديث وبيان صحته وحسنه وضعفه كالإسناد أي كذكره روي بكسر الهمزة في إنه على أنه حال من المضاف إليه في نقله وروي بفتحها للعطف على اسم كان يعني نقله بتأويل المصدر أي وإن كان نقله وكونه من الثقات كالإسناد لأن هذا شأن من اشتهرت أمانته وعملت عدالته وصيانته فيعول على نقله وإن تجرد عن إسناد لأن هذا شان من اشتهرت أمانته وعلمت عدالته وصيانته فيعول على نقله وإن تجرد عن إسناد الشيء لمحله لكن ليس ما فيه أعلام أعلام الشيء بفتح الهمزة آثاره التي يستدل بها كالأغفال بالفتح وهي الأراضي المجهولة ليس فيها أثر تعرف به وفي بعض النسخ بكسر الهمزة فيها فهما مصدران لفظا وضدان معنى وأراد بالأول كتابه المشكاة وبالثاني المصبابيح وكان حقه أن يقول لكن ليس ما فيه إغفال كالأعلام ولعله قلب الكلام تواضعا مع الإمام وهضما لنفسه عن بلوغ ذلك المرام والحاصل أنه ادعى أن في صنيع البغوي قصورا في الجملة وهو عدم ذكر الصحابة
أولا وعدم ذكر المخرج في كل حديث آخرا فإن ذكرهما مشتمل على فواشد أما ذكر الصحابي ففائدته أن الحديث قد يتعدد رواته وطرقه وبعضها صحيح ضعيف فيذكر الصحابي ليعلم ضعيف المروي من صحيه ومنها رجحان الخبر بحال الراوي من زيادة فقهه وورعه ومعرفة ناسخة ومنسوخة بتقدم إسلام الراوي وتأخره وأما ذكر المخرج فائدته تعيين لإفادة الترجيح وزيادة التصحيح ومنها المراجعة إلى الأصول عند الاختلاف في الفصول وغيرها من المنافع عند أرباب الوصول هذا وقال شيخنا العلامة ابن حجر المكل في شرحه للمشكاة عند قوله تكلم فيه بعض النقاد أي تكلم فيه باعتبار ذلك الحذف الذي استلزم عنده أن يعبر عنه بما اصطلح عليه من عند نفسه النقاد كالنووي وابن الصلاح وغيرهما فقالوا ما جنح إليه في مصابيحه من تقسيم أحاديثه إلى صحاح وحسان مع صيرورته إلى ان الصحاح ما رواه الشيخان في صحيحيهما أو أحدهما والحسان ما رواه أبو داود والترمذي وغيرهما من الأئسمة كالنسائي والدارمي وابن ماجة اصطلاح لا يعرف بل هو خلاف الصواب إذا الحسن عند أهل الحديث ليس عبارة عن ذلك لأنه وقع في كتب السنن المشار إليها غير الحسن من الصحيح والضعيف لكن انتصر له المؤلف فقال لا مشاحة في الاصطلاح بل تخطئة المرء في اصطلاحه بعيدة عن الصواب والبغوي قد صحر في كتابه بقوله أعني بالصحاح كذا وبالحسان كذا وما قال أراد المحدثون بهما كذا فلا يرد عليه شيء مما ذكر خصوصا وقد قال وما كان فيها من ضعيف أو غريب أشير إليه وأعرضت عما كان منكرا أو موضوعا ه ولا يخفى أن حمل التكلم على هذا المعنى لا يناسبه قوله وإن كان نقله ألخ ولا يلائمه قوله لكن ليس ما فيه أعلام إذ لا يصلح الأول منهما جوابا ولا الثاني استدراكا صوابا فاستخرت الله تعالى أي لقوله تعالى وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة القصص ولما ورد من حديث أنس رواه الطبراني مرفوعا ما خاب من استخار ولا ندم من استشار ولا عال من اقتصد ولأن العبد لا يعلم خيره من شره قال تعالى وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون البقرة والخير أجمع فيما اختار خالقنا واستوفقت منه بتقديم الفاء على القاف في أكثر النسخ المصححة أي طلبت من الله التوفيق وعلى الاسقامة طريق التوثيق وفي نسخة بالعكس والمعنى طلبت الوقوف على إنكار المنكر ومعرفة المعروف وفي نسخة بالمثلثة والقاف أي طلبت الوثوق والثبوت على التمييز بين المردود والمثبوت و قال ابن حجر أي أخذت من
المصابيح ما هو الوثيقة المقصودة بالذات وهو الأحاديث عرية عن وسمها بصحاح وحسان فأودعت كل حديث منه أي من المصابيح في مقره كذا في بعض النسخ هذه الفقرة موجودة والمعنى وضعت كل حديث من الكتاب في محله الموضوع في أصله من كل كتاب وباب من غير تقديم وتأخير وزيادة ونقصان وتغيير فأعلمت أين فبينت ما أغفلة أي تركه بلا اسناد عمدا من ذكر الصحابي أولا وبيان المخرج آخرا بخصوص كل حديث التراما كما رواه الأئمة جمع إمام وأصله أئمة على وزن أفعله فاعل بالنقل والإدغام ويجوز تحقيق الهمزة الثانية وتسهيلها وإبدالها والمراد منهم ههنا أئمة الحديث الذين يقتدى بهم في كل زمان من القديم والحديث المتقنون أي الضابطون الحافظون الحاذقون لمروياتهم من أتقن الأمر إذا أحكمه ومنه قوله تعالى صنع الله الذي أتقن كل شيء النمل والثقات بكسر المثلثة جمع ثقة وهم العدول والثبات الراسخون أي الثابتون بمحافظة هذا العلم الشريف والقائمون بمراعاة طرق هذا الفن المنيف مثل أبي عبد الله محمد بن إسماعيل قال ابن حجر أبوه كان من العلماء العاملين روى عن حماد بن زيد ومالك وصحب ابن المبارك وروى عنه العراقيون قال لا أعلم في جميع مالي درهما من شبهة البخاري نسبة إلى بخاري بلدة عظيمة من بلاد ما وراء النهر لتولده فيها وصار بمنزلة العلم له ولكتابه قال السيد جمال الدين المحدث يقال له أمير المؤمنين في الحديث وناصر الأحاديث النبوية وناشر المواريث المحمدية قيل لم ير في زمانه مثله من جهة حفظ الحديث واتقانه وفهم معاني كتاب الله وسنة رسوله ومن حيثية حدة ذهنه ودقة نظره ووفور فقهه وكمال زهده وغاية ورعه وكثرة اطلاعه على طرق الحديث وعلله وقوة اجتهاده واستنباطه وكانت أمه مستجابه الدعوة توفي أبوه وهو صغير فنشأ في حجر والدته ثم عمي وقد عجز الأطباء عن معالجته فرأت إبراهيم الخليل على نبينا وعليه الصلاة والسلام قائلا لها قد رد الله على ابنك بصره بكثرة دعائك له فأصبح وقد رد الله عليه بصره فنشأ متربيا في حجر العلم مرتضعا من ثدي الفضل ثم ألهم طلب الحديث وله عشر سنين بعد خروجه من المكتب ولما بلغ إحدى عشرة سنة رد على بعض مشابخه ببخارى غلطا وقع له في سند حتى أصلح كتابه من حفظ البخاري وبيانه أن شيخا من مشايخه في مجلس من مجالس حديثه قال في إسناد حديث حدثنا سفيان عن أبي الزهير عن إبراهيم فقال له البخاري أبو الزهير ليس له رواية عن إبراهيم فهيب عليه الشيخ فقال له البخاري ارجع إلى الأصل إن كان عندك فقال الشيخ
من المجلس ودخل بيته وطالع في أصله وتأمل فيه حق تأمله ثم رجع إلى مجلسه فقال للبخاري فكيف الرواية فقال أليس أبو الزهير بالهاء إنما هو الزبير بالباء وهو الزبير ابن عدي فقال صدقت وأخذ القلم وأصلح كتابه ولما بلغ ست عشرة سنة حفظ كتب ابن المبارك ووكيع وعرف كلام أصحاب أبي حنيفة ثم خرج مع أمه وأخيه أحمد بن إسماعيل إلى مكة فرجع أخوه وأقام هو لطلب الحديث فلما طعن في ثماني عشرة سنة صنف قضايا الصحابة والتابعين وأقاويلهم وصنف في المدينة المنورة عند التربة المطهرة تاريخه الكبير في الليالي المقمرة وكتبوا عنه وسنة ثماني عشرة سنة روي عنه أنه قال قل اسم رجال التاريخ الكبير أن لا يكون عندي منه حكاية وقصة إلا إني تركنها خوفا من الأطناب ولما رجع من مكة ارتحل إلى سائر مشايخ الحديث في أكثر المدن والأقاليم روي عنه أنه قال ارتحلت في استفادة الحديث إلى مصر والشام مرتين وإلى البصرة أربع مرات ولا أحصى ما دخلت مع المحدثين في بغداد والكوفة وأقمت في الحجاز ست سنين طالبا لعلم الحديث قال البخاري والحامل لي على تأليفه أنني رأيتني واقفا بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وبيدي مروحة أذب عنه فعبر لي بأني أذب عنه الكذب وما وضعت فيه حديثا إلا بعد الغسل وصلاة ركعتين وأخرجته من زهاء ستمائة ألف حديث وصنفته في ستة عشر سنة وجعلته حجة فيما بيني وبين الله وما أدخلت فيه إلا صحيحا وما تركت من الصحيح أكثر لئلا يطول وصنفته بالمسجد الحرام وما أدخلت فيه حديثا حتى استخرت الله وصليت ركعتين وتقنت صحته ه وهذا باعتبار الابتداء وترتيب الأبواب ثم كان يخرج الأحاديث بعد في بلده وغيرها وهو محمل رواية أنه كان يصنفه في البلاد إذ مدة تصنيفه ست عشرة سنة وهو لم يجاور هذه المدة بمكة وقد روي عنه انه صنف الصحيح في البصرة وروي أنه صنفه في بخاري وروي عن الوراق البخاري أنه قال قلت للبخاري جميع الأحاديث التي أوردتها في مصنفاتك هل تحفظها فقال لا يخفى علي شيء منها فإني قد صنفت كتبي ثلاث مرات وكأنه أراد بالتكرار التبييض والتنقيح ولعل كثرة نسخ البخاري من هذه الجهة ورواية أنه جعل تراجنه في الروضة الشريفة محموله على نقلها من المسودة إلى المبيضة كذا قيل ويمكن حمله على حقيقته ونقل عن أبي جمرة عمن لقيه من العارفيين أنه ما قرئ في شدة إلا وفرجت وما ركب به في مركب فغرق وأنه كان محاب الدعوة ولقد دعا لقارئه قال الحافظ ابن كثير وكان يستسقى بقراءته الغيث قيل ويسمى الترياق المجرب ونقل السيد جمال الدين عن عمه السيد أصيل أنه قال قرأت البخاري مائة وعشرين مرة للوقائع والمهمات لي ولغيري فحصل المرادات وقضى
الحاجات وهذا كله ببركة سيد السادات ومنبع السعادات عليه أفضل الصلوات وأكمل التحيات قيل وكان ورده في رمضان ختمة في كل يوم وثلثها في سحر كل ليلة ولسعه زنبور وهو في الصلاة في ستة عشر أو سبعة عشر موضعا فقيل له لم لم تخرج من الصلاة أول ما لسعك قال كنت في سورة فأجببت أن أتمها وكان يقول أرجو الله أن لا يحاسبني غني ما اغتبت أحدا فقيل له إن بعض الناس ينقم عليك التاريخ فإنه غيبة فقال إنما روينا ذلك رواية ولم نتقله من عند أنفسنا وقال عليه الصلاة والسلام بئس أخو العشيرة قال واحفظ مائة ألف حديث صحيح ومائتي ألف غير صحيح أي باعتبار كثرة طرقها مع كله حديثا وقيل كان يحفظ وهو صبي سبعين الف حديث سردا وينظر في الكتاب نظرة واحدة فيحفظ ما فيه وكان يقول دخلت بلخ فسألني أهلها أن أملي عليهم من كل من كتبت عنه فأمليت ألف حديث عن ألف شيخ ولبلوغ نهايته في معرفة علل الحديث كان مسلم بن الحجاج يقول له دعني أقبل رجليك يا أسناد الأستاذين وسيد المحدثين ويا طبيب الحديث في علله وقال الترمذي لم أر أحد بالعراق ولا بخراسان في ذلك أعلم منه وكان بسمرقند أربعمائة محدث اجتمعوا تسعة أيام لمغالطته فخلطوا الأسانيد بعضها في بعض إسناد الشاميين في العراقيين وإسناد العراقيين في الشاميين وإسناد أهل الحرم في اليمانيين وعكسه وعرضوها عليه فما استطاعوا مع ذلك أن يتغلبوا عليه بسقطه لا في إسناد ولا في متن ولما قدم بغداد فعلوا معه نظير ذلك فعمدوا إلى مائة حديث فقلبوا متونها وأسانيدها ودفعوا لكل واحد عشرة ليلقيها عليه في مجلسه الغاص بالناس امتحانا فقام أحدهم وساله عن حديث من تلك العشرة فقال لا أعرفه ثم سأله عن الثاني فقال مثل ذلك وهكذا إلى العاشر ثم قام الثاني فكان كالأول ثم الثالث وهكذا إلى أن فرغوا فالعلماء الذين كانوا مطلعين على أصل القضية وحفظه قالوا فهم الرجل والذين ما كان لهم وقوف على القضية توهموا عجزه وحملوا على قصور ضبطه وسوء حفظه فالتفت إلى الأول فقال أماد حديثا الأول بذلك الإسناد فخطأ وصوابه كذا وكذا ولا زال على ذلك إلى أن أكمل المائة فبهر الناس وأذعنوا له فإن عند الامتحان يكرم الرجل أو يهان وعند المبصرين بهذا الفن ليس من العجيب رد خطئهم إلى الصواب لأنه كان حافظ الأحاديث مع الأسانيد بل كان الغريب عندهم حفظه أسانيدهم الباطلة بمجرد سماعه مرة وإعادتها مرتبة وهذا كاد أن يكون خرق العادة ومحض الكرامة فإنه لا يتصور بدون الإلهامات الإلهية والعنايات الرحمانية
ولما قدم البصرة نادى مناد يعلمهم بقدومه فأحدقوا به وسألوه أن يعقد لهم مجلس الإملاء فأجابهم فنادى المنادي يعلمهم أنه أجاب فلما كان من الغد اجتمع كذا وكذا ألفا من المحدثين والفقهاء فأول ما جلس قال يا أهل البصرة أنا شاب وقد سألتموني أن أحدثكم وسأحدثكم أحاديث عن أهل بلدكم تسفيدونها يعني ليست عندكم وأملى عليهم من أحاديث أهل بلدهم مما ليس عندهم حتى بهرهم ومن ثم كثر ثناء الأئمة عليه حتى صح عن أحمد ابن حنبل أنه قال ما أخرجت خراسان مثله وقال غير واحد هو فقيه هذه الأمة وقال إسحاق بن راهويه يا معشر أصحاب الحديث انظروا إلى هذا الشاب واكتبوا عنه فإنه لو كان في زمن الحسن البصري لأحتاج إليه لمعرفته بالحديث وفقهه وقد فضله بعضهم في الفقه والحديث على أحمد وإسحاق وقال ابن خزيمة ما تحت أديم السماء أعلم بالحديث منه وورث من أبيه مالا كثيرا فكان يتصدق به وكان قليل الأكل جدا قيل كان يقنع كل يوم بلوزتين أو ثلاث لوزات وقيل لم يأكل الإدام أربعين سنة قيل كان يدخل عليه كل شهر من مستغلاته خمسمائة درهم فكان يصرفها في الفقراء وطلبة العلم وكان يرغبهم في تحصيل الحديث كثير الإحسان إلى الطلبة مفرطا في الكرم وأعطى خمسة آلاف درهم ربح بضاعة له فأخر فأعطاه آخرون عشرة آلاف فقال إني نويت بيعها للأولين ولا أحب أن أغير نيتي وعثرت جاريته بمحبرة بين يديه فقال لها كيف تمشين فقالت إذا لم يكن طريق كيف أمشي فقال اذهبي فأنت حرة لله فقيل له يا أبا عبد الله أغضبتك فأعتقتها فقال أرضيت نفسي بما فعلت ولما نبي رباطا مما يلي بخاري أجتمع إليه خلق كثير يعينونه فكان ينقل معهم اللبن فيقال قد كفيت فقال هذا هو الذي ينفعني ولما رجع إلى بخاري نصبت له القباب على فرسخ منها واستقبله عامة أهلها ونثر عليه الدراهم والدنانير وبقي مدة يحدثهم وأرسل إليه أمير البلد خالد بن محمد الذهلي نائب الخلافة العباسية يتلطف معه ويسأله أن يأتيه بالصحيح ويحدثهم به في قصره فامتنع وقال لرسوله قل له إني لا أذل العلم ولا أحمله إلى أبواب السلاطين فإن احتاج إلى شيء منه فليحضر في مسجدي أو داري فإن لم يعجبك هذا فأنت سلطأن فامنعني من المجلس ليكون لي عذر عند الله يوم القيامة فإني لا أكتم العلم وروي أنه قال العلم يؤتي ولا يأتي فراسله أن يعقد مجلسا لأولاده ولا يحضر غيرهم فامتنع من ذلك أيضا وقال لا يسعني أن أخص بالسماع قوما دون قوم وروي انه قال العلم لا يحل منعه فحصلت بينهما وحشة فاستعان الأمير بعلماء بخاري عليه حتى تكلموا في مذهبه فأمره بالخروج من البلد فدعا عليهم بقوله اللهم أرهم ما قصدوني به في أنفسهم وأولادهم وأهاليهم فكان مجاب الدعوة فلم يأت شهر حتى ورد أمر الخلافة بأن ينادي على الأمير فأركب حمارا فنودي عليه فيها وحبس إلى أن مات ولم يبق أحد ممن ساعده إلا وابتلى ببليه شديدة ولما خرج من بخاري كتب إليه أهل سمرقند يخطبونه لبلدهم فسار إليهم فلما كان بخرتنك بمعجمة مفتوحة في الأشهر أو مكسورة فراء ساكنة ففوقية مفتوحة فنون ساكنة فكاف
موضع قريب بسمرقند على فرسخين وقيل نحو ثلاثة أيام بلغه انه وقع بينهم بسببه فتنة فقوم يريدون دخوله وآخرون يكرهونه وكان له أقرباء بها فنزل بها حتى ينجلي الأمر فأمام أيام فمرض حتى وجه إليه رسول من أهل سمرقتد يلتمسون خروجه إليهم ن فأجاب وتهيأ للركوب ولبس خفيه وتعمم فلما مشى قدر عشرين خطوة إلى الدابة ليركيها قال أرسلوني فقد ضعفت فأرسلوه فدعا بدعوات ثم اضطجع فقضى عليه فسال منه عرق كثير لا يوصف وما سكن العرق حتى ادرج في أكفانه وقيل ضجر ليلة فدعا بعد أن فرغ من صلاة الليل اللهم قد ضاقت علي الأرض بما رحبت فاقبضني إليك فمات عن غير ولد ذكر ليلة عيد الفطر سنة ست وخمسين ومائتين عن اثنتين وستين سنة وكانت ولادته يوم الجمعة بعد صلاة العصر في شهر شوال أربع وتسعين ومائة ولما صلى عليه ووضع في حفرته فاح من تراب قبره رائحة طيبة كالمسك وجعل الناس يختلفون إلى قبره مدة يأخذون من قبره ويتعجبون من ذلك قال بعضهم رأيت النبي صلى الله عليه وسلم ومعه جماعة من أصحاب وهو واقف فسلمت عليه فرد عليه السلام فقلت ما وفوقك هنا يا رسول الله قال أنتظر محمد بن إسماعيل قال فلما كان بعد أيام بلغني موته فنظرت فإذا هو قد مات في الساعة التي رأيت النبي صلى الله عليه وسلم فيها و بعد نحو سنتين من موته استسقى أهل مرارا فلم يسقوا فقال بعض الصالحين لقاضيها أرى أن يخرج بالناس إلى قبر البخاري ونستقي عنده فعسى الله ان يسقينا ففعل وبكى الناس عند القبر وتشفعوا بصاحبه فأرسل الله تعالى عليهم السماء بماء غزير أقام الناس من أجله نحو سبعة أيام لا يستطيع أحد الوصول إلى سمرقتد من كثرة المطر ثم اعلم أن في زمن الصحابة وكبار التابعين لم تكن الأحاديث مدونة لنهيه عليه الصلاة والسلام أصحابه عن كتابه الحديث مخافة خلطه بالكلام القديم وأيضا دائرة حفظهم كانت واسعة ببركة صحبته وقرب مدته وأيضا أكثرهم لم يكونوا عارفين بصنعه الكتابة فظهر في آخر عصر التابعين تدوين الأحاديث والأخبار وتصنيف السنن والآثار وتصدوا لهذا الأمر الشريف كالزهري وربيع بن صبيح وسعيد بن أبي عروية وغيرهم وكان دأبهم تصنيف كل باب على حدة إلى عهد كبار أهل الطبقة الثالثة فألفوا الحديث على ترتيب أبواب الفقه فصنف الإمام مالك مقدم أهل المدينة موطأة وجمع فيه أحاديث أهل الحجاز مما ثبت وصح عنده وأدرج فيه أقوال الصحابة وفتوى التابعين ومن بعدهم وصنف من أهل مكة أبو حامد عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج ومن أهل الشام أبو عمر وعبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي ومن أهل الكوفة سفيان الثوري ومن البصريين أبو سلمة حماد بن سلمة وبعدهم كل واحد
من أعيان العلماء المجتهدين ألف كتابا وكتب أحمد بن حنيل وإسحاق بن راهويه وعثمان بن أبي شيبة وغيرهم من كبراء المحدثين مسانيدهم وبعضهم على ترتيب أبواب الفقه لكن في الكتب المذكورة لم يميز الصحيح والضعيف ولما اطلع البخاري على تصانيفهم حصل له العزم بطريق الجزم لتحصيل الحزم على تأليف كتاب يكون جميع أحاديثه صحيحة وقد روي عنه أنه قال كنت عند شيخي إسحاق بن راهوية يوما فقال لو جمعتم كتابا مختصرا بصحيح سنة النبي صلى الله عليه وسلم فرقع في قلبي تصنيف كتاب في هذا الباب وتقدم رؤياه أيضا فشرع فيه فلما كمله عرضه على مشايخه مثل إسحاق بن راهويه وعلي بن المديني وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين وغيرهم استحسنوه وشهدوا بصحة كتابه وأنه لا نظير له في بابه واستثنوا أربعة أحاديث وتوقفوا في صحتها قال العقيلي والحق مع البخاري فيها أيضا فإنها صحيحة ثم اختلف علماء الحديث وشراح البخاري في عدد أحاديثه بالمكرر وإسقاط المكرر والذي حققه الحافظ ابن حجر في شرح البخاري أن جملة أحاديثه مع التعاليق والمتابعات والشواهد ومع المكررات تسعة آلاف واثنان وثمانون حديثا وبإسقاط المكرر أحاديث المرفوعة ألفان وستمائة وثلاث وعشرون حديثا وأعلى أسانيد أحاديثه وأقربه إليه عليه الصلاة والسلام ما يكون الواسطة ثلاثة ووجد فيه من هذا القبيل في صحيحة مع المكرر اثنان وعشرون حديثا وبإسقاط المكرر سنة عشر حديثا وقد أفرده بعض العلماء ثم اتفقت العلماء علي الصحيحين بالقبول وأنهما أصح الكتب المؤلف ثم الجمهور على أن صحيح البخاري أرجحهما وأصحهما قيل ولم يوجد عن أحد التصريح بنقيضه لأن قول أبي علي النيسابوري ما تحت أديم السماء أصح من كتاب مسلم ليس فيه تصريح بأصحيته على كتاب البخاري لأن نفي الأصحية لا ينفي المساواة وتفضيل بعض المغاربة لصحيح مسلم محمول على ما يرجع لحسن السياق وجوده الوضع والترتيب إذ لم يفصح أحد منهم بأن ذلك راجع إلى الأصحية ولو صرحوا به لرد عليهم شاهد الوجود لأن ما يدور عليه الصحة من الصفات الموجودة في صحيح مسلم موجودة في صحيح البخاري على
وجه أكمل وأسد فإن شرطه فيها أقوى وأشد وأما رجحانه من حيث الاتصال فلاشتراطه أن يكون الراوي قد ثبت له الاجتماع بمن يروي عنه ولو مرة واكتفى مسلم بمجرد المعاصرة نظرا لإمكان اللقي وأما رجحانه من حيث العدالة والضبط فلأن الرجال تكلم فيهم من رجال مسلم أكثر عددا ممن تكلم فيهم من رجال البخاري مع أنه لم يكثر من إخراج حديثهم بل غالبهم من شيوخه الذين أخذ عنهم ومارس حديثهم وميز جيدها من غيره بخلاف مسلم فإن أكثر من تفرد بتخريج أحاديثه من تكلم فيه هو ممن تقدم عصره من التابعين وتابعيهم ولا شك أن المحدث أعرف بحديث شيوخه ممن تقدم عنهم وأما رجحانه من حيث عدم الشذوذ والإعلال فلأن ما انتقد على البخاري من الأحاديث أقل عددا مما انتقد على مسلم ولا يقدح فيها إخراجها لمن طعن فيه لأن تخريج صاحب الصحيح لأي راو كان متقض لعدالته عنده وصحة ضبطه وعدم غفلته إن خرج له في الأصول فإن خرج في المتابعات والشواهد والتعاليث كانت درجاته متقاربة في الضبط وغيره لكن مع حصول ووصف الصدق له فالطعن فيمن خرج له أحدهما مقابل لتعديله فلا يقبل الجرح إلا مفسرا بما يقدح في عدالته أو في ضبطه مطلقا أو في ضبطه لخبر بعينه لتفاوت الأسباب الحاملة للأئمة على الجرح إذ منها ما لا يقدح ومنها ما يقدح وقد كان أبو الحسن المقدسي يقول فيمن خرج له أحدهما في الصحيح هذا جاز القنطرة يعني لايلتفت لما قيل فيه لأنهما مقدمان على أئمة عصرهما ومن بعدهما في معرفة الصحيح والعل فهو أصح الكتب بعد كتاب الله العزيز ويؤيده ما نقل عن الحاكم أبي أحمد شيخ الحاكم أبي عبد الله النيسابوري أن البخاري إمام المحديثين وكل من أتى بعده وصنف كتابا في الحديث وأفرده ففي الحقيقة إنما أخذه عنه فالفضل للمتقدم حتى أن مسلما أتى بأحاديثه مفرقا في كتابه وتجلد غاية التجلد حيث لم يسندها إلى جنابه وقال الدار قطني لولا البخاري لما راح مسلم ولا جاء أخذ كتابه زاد عليه أبوابه وللبخاري مصنفات غير الصحيح كأدب المفرد ورفع اليدين في الصلاة والقراءة خلف الإمام وبر الوالدين والتاريخ الكبير والأوسط والصغير وخلق أفعال العباد وكتاب الضعفاء والجامع الكبير والمسند الكبير والتفسير الكبير وكتاب الأشربة وكتاب الهبة وأسامي الصحابة وكتاب الوجدان وكتاب العلل وكتاب الكنى وكتاب المبسوط وكتاب الفوائد روي عنه أنه قال رويت الحديث عن ألف وثمانمائة محدث روى عنه خلق كثير كمسلم في غير صحيحه والترمذي وابن خزيمة وأبي زرعة
وأبي حاتم وكذا النسائي في قول وغيرهم وبالجملة قيل روى عنه مائة ألف محدث روي عن يحيى بن جعفر بن أيعين المروي أنه قال لو قدرت على أن أزيد من عمري في عمر البخاري لفعلت لأن موتي واحد من الناس وموت البخاري ذهاب العلم ومة ت العالم ونعم ما قيل إذا ما مات ذو علم وفتوى فقد وقعت من الإسلام ثلمة قال محمد بن أحمد المروزي كنت نائما بين الركن والمقام فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال لي يا أبا زيد إلى متى تدرس كتاب الشافعي ولا تدرس كتابي فقلت يا رسول الله وما كتابك قال جامع محمد بن إسماعيل البخاري وأبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري بالتصغير نسبة إلى بني قشير قبيلة من العرب وهو نيسابوري أحد أئمة علماء هذا الشأن سمع من مشايخ البخاري وغيرهم كأحمد ابن حنبل وإسحاق بن راهويه وقتيبة بن سعيد والقعنبي وروى عنه جماعة من كبار أئمة عصره وحفاظ دهره كأبي حاتم الرازي وابن خزيمة وخلائق وله المصنفات الجليلة غير جامعة الصحيح كالمسند الكبير صنفه على ترتيب أسماء الرجال لا على تبويب الققه وكالجامع الكبير على ترتيب الأبواب وكتاب العل وكتاب أوهام المحدثين وكتاب التميز وكتاب من ليس له إلا راو واحد وكتاب طبقات التابعين وكتاب المخضرمين قال صنفت الصحيح من ثلاثمائة ألف حديث مسموعة وهو أربعة آلاف بإسقاط المكرر وأعلى أسانيده ما يكون بينه وبي النبي صلى الله عليه وسلم أربعة وسائط وله بضع وثمانون حديثا بهذا الطريق ولد عام وفاة الشافعي سنة أربع ومائتين و توفي في رجب سنة إحدى وستين ومائتين وقد رحل إلى العراق والحجاز والشام ومصر وقدم بغداد غير مرة وحدث بها وكان آخر قدومه بغداد سنة سبع وخمسين ومائتين وكان عقد له مجلس بنيسابور للمذاكرة فذكر له حديث فلم يعرفه فانصرف إلى منزله وقدمت له سلة فيها تمر فكان يطلب الحديث ويأخذ تمرة تمرة فأصبح وقد فني التمر ووجد الحديث ويقال إن ذلك كان سبب موته ولذا قال ابن الصلاح كانت و فاته بسبب غريب نشأ من غمرة فكرة علمية وسنه قيل خمس وخمسون وبه جزم ابن الصلاح وتوقف فيه الذهبي وقال إنه قارب الستين وهو أشبه من الجزم ببلوغه الستين قال شيخ مشايخنا علامة العلماء المتبحرين شمس الدين محمد الجزري في مقدمة شرحه للمصابيح المسمى بتصحيح المصابيح إني زرت قبره بنيسابور وقرأت بعض صحيحه على سبيل التيمن والتبرك عند قبره ورأيت آثار البركة ورجاء الإجابة في تربته وأبي عبد الله مالك بن أنس وهو غير أنس بن مالك كما توهم الأصبح نسبة إلى ذي أصبح ملك من ملوك اليمن أحد أجداد الإمام مالك بن أنس صاحب المذهب وأخر عن
البخاري ومسلم ذكرا وإن كان مقدما عليهما وجودا ورتبة وإسنادا لتقدم كتابيهما على كتابه ترجيحا لعدم التزامه تصحيحا وهو من تابعي التابعين وقيل من التابعين إذ روي أنه روى عن عائشة بنت سعد بن أبي وقاص وصحيتها ثابته قال الحافظ ابن حجر كتاب مالك صحيح عنده وعند من تقلده على ما اقتضاه نظره من الاحتجاج بالمرسل والمنقطع وغيرهما وقال السيوطي ما فيه من المراسيل فإنها مع كونها حجة عنده بلا شرط وعند من وافقه من الأئمة على الاحتجاج بالمرسل حجة أيضا عندنا إذا اعتضد وما من مرسل في الموطأ وما من مرسل في الموطأ إلا وله عاضد أو عواضد فالصواب إطلاق أن الموطأ صحيح لا يستثنى منه شيء وقد صنف ابن عبد البر كتابا في وصل ما في الموطأ من المرسل والمنقطع والمعضل قال ابن عبد البر مذهب مالك أن مرسل الثقة تجب به الحجة ويلزم به العمل كما تجب بالمسند سواء قال البخاري إمام الصنعة أصح الأسانيد مالك عن نافع عن ابن عمر وفي المسألة خلاف منتشر مشتهر وعلى هذا المذهب قالوا أصح الأسانيد عن مالك الشافعي إذ هو أجل أصحابه على الإطلاق بإجماع أصحاب الحديث ومن ثم قال أحمد سمعت الموطأ من سبعة عشر رجلا من حفاظ أصحاب مالك ثم من الشافعي فوجدته أقومهم به وأصحها عن الشافعي أحمد ولاجتماع الأئمة الثلاثة في هذا السند قيل لها سلسلة الذهب قيل ولا ينافي ذلك إكثار أحمد في مسنده إخراج حديث مالك من غير طريق الشافعي وعدم إخراج أصحاب الأصول حديث مالك من جهة الشافعي أما الأول فلعل جمعه المسند كان قبل سماعه من الشافعي وأما الثاني فلطلبهم العلو المقدم عند المحدثين على ما عداه من الأغراض قال بكر بن عبد الله أتينا مالكا فجعل يحدثنا عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن وكنا نستزيده من حديثه فقال لنا يوما ما تصنعون بربيعة هو نائم في ذلك الطاق فأتينا ربيعة فنبهناه وقلنا له أنت ربيعة فقال نعم قلنا الذي يحدث عنك مالك قال نعم قلنا كيف حظي بك مالك ولم تحظ أنت بنفسك قال أما علمتم أن مثقال دولة خير من حمل علم وكأنه أراد بالدولة اللطف الرباني والتوفيق الإلهي قال ابن مهدي الثوري إمام في الحديث والأوزاعي إمام في السنة ومالك إمام فيهما وكان إذا أتاه أحد من أهل الأهواء قال له أما أنا فعلى بينه من ديني وأما أنت فشاك اذهب إلى شاك مثلك فخاصمه وقال الشافعي رأيت على باب مالك كراعا من أفراس خراسان وبغل مصر ما رأيت أحسن منه فقلت أنا أستحي من الله أن أطأ تربة فيها رسول بحافر دابة وكان مبالا في تعظيم حديثه صلى الله عليه وسلم حتى كان إذا أراد أن يحدث توضأ وجلس على صدر فراشه وسرح لحيته وتطيب وتمكن من
الجلوس على وقار و هيبة ثم حدث فقيل له في ذلك فقال أحب أن أعظم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن كلامه إذا لم يكن للإنسان في نفسه خير لم يكن للناس فيه خير وقال ليس العلم بكثرة الرواية وإنما هو نور يضعه الله في القلب قال مالك قال لي هارون الرشيد يا أبا عبد الله ينبغي أن تختلف إلينا حتى يسمع صبياننا منك الموطأ يعني الأمين والمأمون فقلت أعز الله أمير المؤمنين إن هذا العلم منكم خرج فإن أنتم أعززتموه عز وإن أنتم أذللتموه ذل وفي رواية مه يا أمير المؤمنين لا تضع عز شيء رفعه الله والعلم يؤتي ولا يأتي قال صدقت وفي رواية صدقت أيها الشيخ كان هذا هفوة مني استرها علي أخرجوا وفي رواية مه يا أمير المؤمنين لا تضع عز شيء رفعه الله والعلم يؤتي ولا يأتي قال صدقت وفي رواية صدقت أيها الشيخ كان هذا هفوة مني استرها علي أخرجوا إلى المسجد حتى تسمعوا مع الناس وسأله الرشيد ألك دار قال لا فأعطاه ثلاثة آلاف دينار وقال اشتربها دارا فأخذها ولم ينفقها ولما أراد الرشيد الشخوص قال لمالك ينبغي أن تخرج معي فإني عزمت أن أحمل الناس على الموطأ كما حمل عثمان الناس على القرآن فقال أماحمل الناس على الموطأ فلا سبيل إليه لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم افترقوا بعده في الأمصار فحدثوا فعند أهل كل مصر علم وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلاف أمتي رحمة وأما الخروج معك فلا سبيل إليه لأنه صلى الله عليه وسلم قال المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون وهذه دنانيركم كما هي إن شئتم فخذوها وإن شئتم فدعوها يعني إنك إنما كلفتني مفارقة المدينة لما صنعت إلي فلا أؤثر الدنيا على مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصح عن الشافعي أنه قال ما في الأرض كتاب من العلم أكثر صوابا من موطأ مالك وفي رواية ما تحت أديم السماء أصح منه اتفاقا وجاءه رجل من مسيرة ستة أشهر في مسألة أرسله بها اهل بلده فقص عليه خبره فقال لا أحسن قال فماذا أقول لهم قال قلا لهم قال مالك لا أحسن أخذ عن ثلثمائة تابعي وأربعمائة من تابعيهم توفي في ربيع الأول سنة تسع أو ثمان وسبعين ومائة على الأصح ودفن بالبقيع وقبره مشهور به ووولد في ربيع الأول سنة ثلاث ومائة على الأشهر قيل مكث حملا في بطن أمه ثلاث سنين وقيل أكثر وقيل سنتين قال الواقدي مات وله تسعون سنة وقيل مالك أثتب أصحاب الزهري وابن المنكدر ونافع ويحيى بن سعيد وهشام بن عروة وربيعة وجمع كثير وروى الزهري عنه مع أنه من شيوخه ومن أجلاء التابعين فهو من قبيل رواية الأكابر عن الأصاغر وقد روى عن مالك ابن جريج وابن عيينة والثوري والأوزاعي وشعبة والليث بن سعد وابن المبارك والشافعي وابن وهب وخلائق لا يحصون قال مالك قل من أخذت عنه الحديث أنه ما جاءتي ولم يأخذ مني الفتوى
وأبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي نسبه إلى شافع أحد أجداده قيل شافع كان صاحب راية بني هاشم يوم بدر فاسر وفدى نفسه فأسلم وقيل لقي شافع النبي صلى الله عليه وسلم وهو مترعوع وأسلم أبوه السائب يوم بدر وكان السائب صاحب راية بني هاشم يوم بدر فأسر وفدى ت نفسه ثم أسلم وعلى القولين يظهر وجه تخصيص النسبة إليه ثم نسبة أهل مذهبه أيضا شافعي وقول العامة شافعوي خطأ وهو المطلبي الحجازي المكي ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم يلتقي معه في عبد مناف وورد خبر عالم قريش يملأ طباق الأرض علما طرقه متماسكة وليس بموضوع خلافا لمن وهم فيه كما بينه أئمة الحديث كأحمد وأبي نعيم والبيهقي والنووي بموضوع خلافا لمن وهم فيه كما بينه أئمة الحديث كأحمد وأبي نعبم والبيهقي والنووي وقال إنه حديث مشهور وممن حمله على الشافعي أحمد وتبعه العلماء على ذلك ولد بغزة على الأصح وقيل بعسقلان وقيل باليمن وقيل بمنى وقيل بالبحر سنة خمسين ومائة اتفاقا وهي سنة وقاة أبي حنيفة وقيل ولد يوم موته قال البيهقي هذا التقييد لم أجده إلا في بعض الروايات إما بالعام فهو مشهور بين أهل التواريخ ونشأ يتيما في حجر أمه في ضيق عيش بحيث كانت لا تجد أجرة المعلم وكان يقصر في تعليمه وكان الشافعي يتلقف ما يعلمه لغيره فإذا ذهب علمهم إياه فكفى المعلم أمرهم أكثر مما لو أعطاه أجره فتركها واستمر حتى تعلم القرآن لسبع سنين ثم حبب إليه مجالسة العلماء وكان يكتب ما يستفيده منهم في العظام ونحوها لعجزه عن الورق وكان يؤثر الشعر والأدب إلى أن تمثل ببيت وعنده كاتب أستاذ مسلم بن خالد الزنجي مفتي مكة فقرعه بسوط ثم قال له مثلك يذهب بمروءته في مثل هذا أين أنت من الفقه فهزه ذلك إلى مجالسه مسلم ومن أشعاره يا أهل بيت رسول الله حبكم فرض من الله في القرآن أنزله كفاكم من عظيم القدر أنكم من لم يصل عليكم لا صلاة له ثم قدم المدينة وعمره ثلاث عشرة سنة فلازم مالكا فأكرمه وعامله لنسبه وعلمه وفهمه وأدبه وعقله بما هو اللائق بهما وكان حفظ الموطأ بمكة لما أراد الرحلة إلى مالك حين سمع أنه إمام المسلمين وكان مالك يستزيده من قراءته لإعجابه بها حتى قرأه عليه في أيام يسيرة وقال له مرة لما تفرس فيه النجابة والإمامة اتق الله إنه سيكون لك شأن وأخرى إن الله قد ألقى عليك نورا فلا تطفئه بالمعصية قال فما ارتكبت كبيرة قط ثم بعد وفاة مالك رحل من المدينة إلى اليمن وولي بها القضاء ثم رحل إلى العراق وجد في التحصيل وناظر محمد بن الحسن وغيره ونشر علم الحديث وشاع ذكره وفضله إلى أن ملأ البقاع والأسماع قال محمد بن الحسن في مدح الشافعي إنه استعار مني كتاب الأوسط لأبي حنيفة وحفظه
في يوم وليلة ولما صنف كتاب الرسالة أعجب به أهل عصره وأجمعوا على استحسانه وأنه من الخوارق حتى قال المزني قرأته خمسمائة مرة ما من مرة إلا وقد استفدت منه شيئا لم أكن غرفته وكان أحمد يدعو له في صلاته لما رأى اهتمامه بنصر السنة وصنف في العراق كتابه القديم المسمى بالحجة ثم رحل إلى مصر سنة تسع وتسعين ومائة وصنف كتبه الجديدة بها ورجع عن تلك ومجموعها يبلغ مائة وثلاثة عشر مصنفا وسار ذكرها في البلدان وقصده الناس من الأقطار للأخذ عنه وكذا أصحابه من بعده لسماع كتبه حتى اجتمع في يوم على باب الربيع تسعمخائة راحلة وابتكر أصول الفقه وكتاب القسامة وكتاب الجزية وقتال أهل البغي وكان حجة في اللغة والنحو وأذن له مسم بن خالد مفتي مكة في الإفتاء بها وعمره خمس عشرة سنة وربما أوقد له المصباح في الليلة ثلاثين مرة ولم يبقه دائم الوقود قال ابن أخته من أمه لأن الظلمة أجلى للقلوب وكان يقول إذا صح الحديث فهو مذهبي واضربوا بقولي الحائط وانفرد بالإعراض على التمسك بالحديث الضعيف في غير الفضائل ومن كلامه الدال على إخلاصه وددت أن كل ما تعلمه الناس أؤجر عليه ولا يحمدوني قط ووددت إذا ما ناظرت أحدا أن يظهر الحق على يديه ومن حكمه البالغة طلب العلم أفضل من صلاة الناقلة ومن أراد الدنيا والآخرة فعليه بالعلم أي مع العمل ما أفلح من العلم إلا من طلبه في الذلة ولقد كنت أطلب القرطاس فيعز علي لا يتعلم أحد هذا العلم بالملك وعزة النفس فيفلح ولكن من طلبه بذلة النفس وضيق العيش أفلح تفقه قبل أن ترأس فإذا ترأست فلا سبيل إلى التفقه زينه العلم الورع والحلم لا عيب في العلماء أقبح من رغبتهم فيما زهدهم الله فيه وزهدهم فيما رغبهم الله فيه فقر العلماء فقر اختيار وفقر الجهال فقر اضطرار الناس في غقلة من سورة والعصر إن الإنسان لفي خسر العصر من لم تعزه التقوى فلا تقوى له ما فرغت من العلم قط طلب فضول الدنيا عقوبة عاقب الله بها أهل التوحيد من غلبته سدة الشهوة للدنيا لزمته العبودية لأهلها ومن رضي بالقنوع زال عنه الخضوع لا يعرف الرباء إلا المخلصون لو اجتهدت كل الجهد على أن ترضي الناس كلهم فلا سبيل لذلك فأخلص عملك ونيتك لله لو أوصى رجل بشيء لأعقل الناس كلهم فلا سبيل لذلك فأخلص عملك ونيتك الله لو أوصى رجل بشيء لأعقل الناس صرف للزهاد سياسة الناس أشد من سياسة الدواب العاقل من عقله عقله عن كل مذموم ومن نم لك بن بك من وعظ أخاه سرا فقد نصحه ومن وعظه علانية فقد فضحه التواضع من أخلاق الكرام والتكبر من شيم اللئام أربع الناس قدرا من لا يرى قدره الشفاعات زكاة المروآت من ولي القضاء فلم يفتقر فهو لص لا بأس للفقيه أن يكون معه سفيه يسافه به مداراة الأحمق غاية لا تدرك الانبساط إلى الناس مجلبة لقرناء السوء والانفراد عنهم مكسبة للعداوة فكن بين المنقبض والمنبسط لأن
يبتلى المرء بكل ذنب ما عدا الشرك خير من أن ينظر في الكلام فإني والله أطلعت من أهل الكلام على شيء ما ظنته قط وكان يكتب ثلث الليل ثم يصلي ثلثة ثم ينام ثلثة ويختم كل يوم ختمة أقول لعله في أيام رمضان وقال ما كذبت قط ولا حلقت بالله صادقا ولا كاذبا وما تركت غسل الجمعة قط وما شبعت منذ ست عشرة سنة إلا شبعة طرحتها من ساعتي قال الكرابيسي سمعته يقول يكره جل أن يقول قال الرسول لكن يقول قال رسول الله وكان له اليد الطولي في السخاء قدم سن صنعاء إلى مكة بعشرة آلاف دينار فما برح من مجلس سلام الناس عليه حتى فرقها كلها وسقط سوطه فناوله إنسان فأمؤر غلامه بإعطائه ما معه من الدنانير فكانت سبعة أو تسعة وانقطع شسع نعله فأصلحه له رجل فقال يا ربيع أمكع من نففتنا شيء قلت سبعة دنانير قال ادفعها إليه وقال المزني ما رأيت أكرم منه خرجت معه ليلة العيد من المسجد وأنا أذاكره في مسألة حتى أتيت باب داره فأتاه غلام بكيس وقال مولاي يقرئك السلام ويقول لك خذ هذا الكيس فإنه لك هدية وعينا المنة فأخذه منه فأتاه رجل فقال يا أبا عبد الله ولدت امرأتي الساعة وليس عندي شيء فدفع إليه الكيس وصعد وليس معه شيء وكان يأكل شهوة أصحابه وركب حماره واحمد يمشي بجانبه ويذاكره فبلغ ذلك يحيى بن معين فعتب أحمد فأرسل له ولو كنت بالجانب الآخر من حماره لكان خيرا لك وكانت له المعرفة التامة بالرمي حتى يصيب عشرة من عشرة وبالفروسية حتى يأخذ بأذنه وأذن الفرس في شدة عدوه وروي أنه مسع قارئا يقرأ هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون المرسلات فتغير الشافعي وراتعد وخر مغشيا عليه فلما أفاق قال اللهم إني أعوذ بك من مقام الكذابين ومن إعراض الجاهلين هب لي من رحمتك وجللني بسترك واعف عني بكرمك ولا تكلني إلى غيرك ولا تقنطني من خيرك ومن كلامه لو لم يكن العلماء أولياء فليس الله ولي ما اتخذ الله وليا جاهلا قال المزني دخلت عليه في مرض موته فقلت له كيف أصحبت فقال أصبحت من الدنيا راحلا ولإخواني مفارقا ولكأس المنية شاربا ولسوء أعمالي ملاقيا وعلى الله ورادا فلا أدري روحي تصير إلى الجنة فأهنيها أو إلى النار فأعزيها ثم بكى وأنشأ يقول ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي جعلت رجائي نحو عفوك سلما تعاظمني ذنبي فلما قرنته بعفوك ربي كان عفوك أعظما توفي آخر يوم من رجب ليلة الخمس أو ليلة الجمعة وكان قد صلى المغرب سنة أربع ومائتين وقبره بقرافه مصر وعاش أربعا وخمسين سنة
وأبي عبد الله أحمد بن حنبل وفي نسخة صحيحة أحمد بن محمد بن حنبل فالنسبة الأولى مجازية الشيباني نسبة إلى قبيلة وهو المروزي ثم البغدادي ولد ببغداد سنة أربع وستين ومائة ومات بها سنة إحدى وأربعين ومائتين وله سبع وسبعون سنة كان إماما في الفقه والحديث والزهد والورع والعبادة وبه عرف الصحيح والسقيم والمجروح من المعدل نشأ ببغداد وطلب العلم وسمع الحديث من شيوخها ثم رحل إلى مكة والكوفة والبصرة والمدينة واليمن والشام والجزيرة وسمع من يزيد بن همام وغيرهم وروى عنه أبناه صالح وعبد الله وابن عمه حنبل بن إسحاق ومحمد بن إسماعيل البخاري ومسلم بن الحجاج النيسابوري وأبو زرعة وأبو داود السجستاني وخلق كثير إلا أن البخاري لم يذكر في صحيحه عنه إلا حديثا واحدا في آخر كتاب الصدقات تعليقا وروى عن أحمد بن الحسن عنه فضاسله كثيرة ومناقبة شهيرة وهو أحد المجتهدين المعمول بقوله ورأية ومذهبه في كثير من البلاد قال أبو زرعة كان أحمد يحفظ ألف ألف حديث فقيل له ما يدريك قال ذاكرته فأخذت عليه الأبواب وقال أيضا حزرت كتبه اثني عشر حملا أو عدلا كل ذلك كان يحفظه عن ظهر قلبه وقال أبو داود السجساني كأن مجالسة أحمد بن حنبل مجالسة الآخرة لا يذكر فيها شيء من أمر الدنيا وقال محمد بن موسى حمل إلى الحسن بن عبد العزيز ميراثه من مصر مائة ألف دينار فحمل إلى أحمد بن حنبل ثلاثة أكياس في كل كيس ألف دينار فقال يا أبا عبد الله هذا من ميراث حلال فخذها واستعن بها على عائلتك قال لا حاجة لي فيها أنا في كفاية فردها ولم يقبل منها شيئا وقال عبد الله بن أحمد كنت أسمع أبي كثيرا يقول في دبر صلاته اللهم كما صنت وجهي عن السجود لغيرك فصن وجهي عن المسألة لغيرك وقال ميمون بن الأصبغ كنت ببغداد فسمت ضجة فقلت ما هذا فقالوا أحمد بن حنبل يمتحن فدخلت فلما ضرب سوطأ قال بسم الله فلما ضرب الثاني لا حول ولا قوة إلا بالله فلما ضرب الثالث قال القرآن كلام الله غير مخلوق فلما ضرب الرابع قال لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا التوبة فضرب تسعة وعشرين سوطأ وكانت تكة أحمد حاشية ثوب فانقطعت فنزل السروال إلى عانته فرمى أحمد طرفه إلى السماء فحرك شفيته فما كان بأسرع من ارتقاء السروال ولم ينزل فدخلت عليه بعد سبعة أيام فقلت يا أبا عبد الله رأيتك تحرك سفتيك فأي شيء قلت قال قلت اللهم إني أسألك باسمك الذي ملأت به العرش إن كنت تعلم أني على الصواب فلا تهتك لي سترا وقال أحمد بن محمد الكندي رأيت أحمد بن حنبل في النوم فقلت ما صنع الله بك قال غفر لي ثم قال يا أحمد ضربت في قال قلت نعم يا رب قال يا أحمد هذا وجهي فانظر إليه فقد أبحتك النظر إليه روي أنه أرسل الشافعي إلى بغداد يطلب قميصه الذي ضرب فيه فأرسله إليه فغسله الشافعي وشرب ماءه وهذا من أجل مناقبه قال ولده صالح إنه حج خمس
حجج ثلاثا منها راجلا وكثيرا ما كان يتأدم بالخل قال أبو زرعة بلغني أن المتوكل أمر أن يمسح الموضع الذي وقف الناس فيه للصلاة عليه فبلغ مقام ألفي ألف وخمسمائة ألف وأسلم يوم وفاته عشرون ألفا وقبره ظاهر ببغداد يزار ويتبرك به وكشف لما دفن بجنبه بعض الأشراف بعد موته بمائتين وثلاثين سنة فوجد كفنه صحيحا لم يبل وجثته لم تتغير تنبيه اعترض على ابن الصلاح تفضيل كتب السنن على مسند أحمد فإنه أكبر المسانيد وأحسنها فإنه لم يدخل فيه إلا ما يحتج به مع كونه اختصره من أكثر من سبعمائة ألف حديث وخمسين ألفا وقال ما اختلف المسلمون فيه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فارجعوا فيه إلى المسند فإن وجدتموه فحسن وإلا فليس بحجة ومن ثم بالغ بعضهم فاطلق الصحة على كل ما فيه والحق أن فيه أحاديث وإلا فليس بحجة ومن ثم بالغ بعضهم فأطلق الصحة على كل ما فيه والحق أن فيه أحاديث كثيرة ضعيفة وبعضها أشد في الضعيف من بعض حتى إن ابن الجوزي قد أدخل كثيرا منها في موضوعاته لكن تعقبه في بعضها بعضهم وفي سائرها شيخ الإسلام ابن حجر العسقلاني وحقق نفي الوضع عن جميعها كالسنن الأربعة قال وليست الأحاديث الزائدة فيه على ما في الصحيحين بأكثر ضعفا من الأحاديث الزائدة في سنن أبي داود والترمذي عليهما وبالجملة فالسبيل واحد لمن أراد الاحتجاج بحديث من السنن لا سيما سنن ابن ماجه ومصنف ابن أبي شيبة وعبد الرزاق مما الأمر فيه أشد أو بحديث من المسانيد لأن هذه كلها لم يشترط جامعوها الصحة والحسن وتلك السبيل أن المحتج إن كان أهلا للنقل والتصحيح فليس له أن يحتج بشيء من القسمين حتى يحبط به وإن لم يكن أهلا لذلك فإن وجد أهلا لتصحيح أو تحسين قلده وإلا فلا يقدم على الاحتجاج فيكون كحاطب ليل فلعله يحتج بالباطل وهو لا يشعر وأبي عيسى قيل بكره هذه التكينة محمد بن عيسى الترمذي بكسر التاء والميم وبضمهما وبفتح التاء وكسر الميم مع الذال المعجمة نسبة لمدينة قديمة على طرف وحيحون نهر بلج الإمام الحجة الأوحد الثقة الحافظ المتقن أخذ عن البخاري وقتيبة بن سعيد ومحمود بن غيلان ومحمد بن بشار وأحمد بن منيع ومحمد بن المثنى وسفيان بن وكيع وغيرهم وأخذ عنه خلق كثير وله تصانيف كثيرة في علم الحديث منها الشمائل وهذا كتابه الصحيح أحسن الكتب وأحسنها ترتيبا وأقلها تكرارا وفيه ما ليس في غيره من ذكر المذاهب ووجوه الاستدلال وتبيين أنواع من الصحيح والحسن والغريب وفيه جرح وتعديل وفي آخره كتاب العلل وقد جمع فيه فوائد حسنة لا يخفى قدرها على وقف عليها ولذا قيل هو كاف للمجتهد
ومغن للمقلد بل قال أبو إسماعيل الهروي هو عندي أنفع من الصحيحين لأن كل أحد يصل للفائدة منه وهما لا يصل إليها منهما إلا العغالم المتبحر وقول ابن حزم إنه مجهول كذب منه قال عرضت هذا الكتاب يعني سننه على علماء الحجاز والعراق وخراسان فرضوا به ومن كان في بيته فإنما في بيته نبي يتكلم نعم عنده نوع تساهل في التصحيح ولا يضره فقد حكم بالحسن مع وجودا الانقطاع في أحاديث من سننه وحسن فيها بعض ما انفرد رواته به كما صرح هو به فإنه يورد الحديث ثم يقول عقبة إنه حسن غريب أو حسن صحيح غيريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه لكن أجبيب عنه بأنه هذا اصطلاح جديد ولا مشاخه في الإصطلاح وقد أطلق الحاكم والخطيب الصحة على جميع ما في سنن الترمذي توفي بترمذ سنة تسع وسبعين ومائتين وأعلى أسانيده ما يكون واسطتان بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم وله حديث واحد في سننه بهذا الطريق وهو يأتي على الناس زمان الصابر فيهم على دينه كالقابض على الجمر فإسناده أقرب من إسناد البخاري ومسلم وأبي داود فإن لهم ثلاثيات وذكر في جامعة بسنده هذا الحديث وهو يا علي لا يحل لأحد أن يجنب في هذا المسجد غيري وغيرك ثم قال وهذا حديث حسن غريب وقد سمعه مني البخاري أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني بكسر السنن الأولى وتفتح وبكسر الجيم سكون السين الثانية معرب سيستان من نواحي هراة من بلاد خراسان ولد سنة ثنتين ومائتين وتوفي بالبصرة سنة خمس وسبعين ومائتين وهو الإمام الحافظ الحجة سكن البصرة وقدم بغداد مرارا فروى سننه بها ونقله أهلها عنه وعرضه على أحمد فاستجاده واستحسنه سمع أحمد ويحيى بن معين والقعنبي وسليمان بن حرب وقتيبة وخلائق لا يحصون وروى عنه النسائي وغيره قال جمع ألين الحديث لأبي داود كما ألين الحديث لداود وكان يقول كتبت عن رسول صلى الله عليه وسلم خمسمائة ألف حديث انتخبت منها ما ضمنته كتاب السنن جمعت فيه أربعة آلاف حديث وثمانمائة حديث ذكرت الصحيح وما يشبه ويقاربه ويكفي الإنسان لدينه من ذلك أربعة أحاديث أحدها قوله عليه الصلاة والسلام إنما الأعمال بالنيات والثاني قوله عليه الصلاة والسلام من حسن بإسلام المرء تركه ما لا يعنيه والثالث قوله عليه الصلاة والسلام لا يكون المؤمن مؤمنا حتى يرضى لأخيه ما يرضى لنفسه
والرابع إن الحلال بين والحرام بين الحديث ومن أشعار الشافعي عمدة الدين عندنا كلمات أربع قالهن خير البرية اتق السيئات وازهد ودع ما ليس بعينك واعمل بنيه فكأنه أراد بقوله أزهد حديث الأربعين ازهد في الدنيا يحبك الله وزاهد فيما عند الناس يحبك الناس قال الخطابي شارحة لم يصنف في علم الدين مثله وهو أحسن وضعا وأكثر فقها من الصحيحين وقال أبو داود ما ذكرت فيه حديثا أجمع الناس على تركه وقال ابن الأعرابي من عنده القرآن وكتاب أبي داود لم يحتج معهما إلى شيء من العلم البتة وقال الناجي كتاب الله أصل الإسلام وكتاب أبي داود عبد الإسلام ومن ثم صرح حجة الإسلام الغزالي باكتفاء المجتهد به في الأحاديث وتبعه أئمة الشافعية على ذلك وقال النووي ينبغي للمشتغل بالفقه ولغيره الاعتناء به فإن معظم أحاديث الأحكام التي يحتج بها فيه مع سهولة تناوله وكان له كم واسع وكم ضيق فقيل له ما هذا فقال أما الواسع فلكتب وأما الضيق فللاحتياح إليه وفضائله ومناقبه كثيرة وكان في أعلى درجة من النسك والعفاف والصلاح والورع قال المندري ما سكت عليه لا ينزل عن درجة الحسن وقال النوي ما رواه في سننه ولم يذكر ضعفه هو عنده صحيح أو حسن وقال ابن عبد البر ما سكت عليه صحيح عنده سيما إن لم يكن في الباب غيره وأطلق ابن منده وابن السكن الصحة على جميع ما في سنن أبي داود ووافقهما الحاكم وأبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي بفتح النون والمد كما في جامع الأصول واقتصر عليه المصنف وبالقصر كما في طبقات الفقهاء نسبة إلى بلد بخراسان قريب مرو وأما ما ذكره ابن حجر أنه من كور نيسابور أو من أرض فارس فغير صحيح أحد الأئمة الحفاظ سمع من إسحاق بن راهويه وسليمان بن أشعث ومحمود بن غيلان وقتيبة بن سعيد ومحمد بن بشار وعلي بن حجر وأبي داود وآخرين ببلاد كثيرة وأقاليم متعددة وأخذ عنه خلق كثيرون كالطبراني والطحاوي وابن السني ودخل دمشق فسئل عن معاوية ففضل عليه عليا فأخرج من المسجد وحمل إلى الرملة ومات بها وقيل إلى مكة ودفن بها بين الصفا والمروة وجرى عليه بعض الحفاظ فقال مات ضربا بالأرجل من أهل الشام حين
أجابهم لما سألوه عن فضائل معاوية ليرجحوه بها على علي بقوله ألا يرضى معاوية رأسا برأس حتى يفضل وفي رواية ما أعرفه ألا أشبع الله بطنه وما زالوا يضربونه بأرجلهم حتى أخرج من المسجد ثم حمل إلى مكة فمات مقتولا شهيدا وقال الدار قطني إن ذلك كان بالرملة وكذا قال العبدري إنه مات بالرملة بمدينة فلسطين ودفن بالبيت المقدس وسنه ثمان وثمانون سنة فما قاله الذهبي ومن تبعه وجزم المصنف بأنه مات بمكة سنة ثلاث وثلثمائة وهو مدفون بها ونقل التاج السبكي عن شيخه الحافظ الذهبي ووالده الشيخ الإمام السبكي أن النسائي أحفظ من مسلم صاحب الصحيح وأن سننه أقل السنن بعد الصحيحين حديثا ضعيفا بل قال بعض الشيوخ إنه أشرف المصنفات كلها وما وضع في الإسلام مثله وقد قال ابن منده وابن السكن وأبو علي النيسابوري وأبو أحمد بن عدي والخطيب والدار قطني كل ما فيه صحيح لكن فيه تساهل صريح وشذ بعض المغاربة فضله على كتاب البخاري ولعله لبعض الحيثيات الخارجة عن كمال الصحة والله تعالى أعلم قال السيد جمال الدين صنف في أول الأمر كتابا يقال له السنن الكبيرة للنسائي وهو كتاب جليل لم يكتب مثله في جمع طرق الحديث وبيان مخرجه وبعده اختصره وسماه بالمجتنى بالنون وسبب اختصاره أن أحدا من أمراء زمانه سأله إن جميع أحاديث كتابك صحيح فقال في جوابه لا فأمره الأمير بتجريد الصحاح وكتابه صحيح مجرد فانتخب منه المجتنى وكل حديث تكلم في إسناده أسقطه منه فإذا أطلق المحدثون بقولهم رواه النسائي فمرادهم هذا المختصر المسمى بالمجتنى لا الكتاب الكبير وكذا إذا قال الكتب الخمسة أو الأصول الخمسة فهي البخاري ومسلم وسنن أبي داود وجامع الترمذي ومجتنى النسائي أبي عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه بإثبات ألف ابن خطأ فإنه بدل من ابن يزيد ففي القاموس ماجة لقب والد محمد بن يزيد صاحب السنن لأجده وفي شرح الأربعين إن ماجة اسم أمه القزويني بفتح القاف نسبة إلى بلد معروف وهو الإمام الحافظ صاحب السنن التي كمل به الكتب الستة والسنن الأربعة بعد الصحيحين قال الحافظ ابن حجر وأول من أضاف ابن ماجة إلى الخمسة الفضل بن طاهر حيث أدرجه معها في أطرافه وكذا في شروط الأئمة الستة ثم الحافظ عبد الغني في كتاب الإكمال في أسماء الرجال الذي هذبه الحافظ المزي وقدموه على الموطأ لكثرة زوائده على الخمسة بخلاف الموطأ وهو كما قاله ابن الأثير كتاب مفيد قوي التبويب في الفقه لكن فيه أحاديث ضعيفة جدا بل منكرة بل نقل عن الحافظ المزي أن الغالب فيما انفرد به الضعف ولذا لم يضفه غير واحد إلى الخمسة بل جعلوا السادس الموطأ منهم رزين والمجد ابن الأثير وقال العسقلاني ينبغي أن يجعل مسند الدارمي
سادسا للخمسة بدله فإنه قليل الرجال الضعفاء نادر الأحاديث المنكرة والشاذة وإن كان فيه أحاديث مرسلة وموقوفة فهو مع ذلك أولى منه توفي في رمضان سنة ثلاث وسبعين ومائيتن وله من العمر أربع وستون سنة سمع أصحاب مالك و الليث وروى عنه أبو الحسن القطان وخلق سواه وله ثلاثيات من طريق جبارة بن المغلس وله حديث في فضل قزوين أورده في سننه وهو منكر بل موضوع ولذا طعن فيه وفي كتابه وأبي محمد عبد الله بن عبد الرحمن السمرقندي التميمي الدارمي بكسر الراء نسبة إلى دارم بن مالك بطن كبير من تميم وهو الإمام الحافظ عالم سمرقند صنف التفسير والجامع ومسنده المشهور وهو على الأبواب لا الصحابة خلافا لمن وهم فيه روى عن البخاري ويزيد ابن هارون والنضر بن شميل وغيرهم وقال رأيت العلماء بالحرمين والحجاز والشام والعراق فما رأيت فيهم أجمع من محمد بن إسماعيل البخاري وروى عنه مسلم وأبو داود والترمذي وغيرهم قال أبو حاتم هو إمام أهل زمانه توفي يوم التروية ودفن يوم عرفة سنة خمس وخمسين ومائتين وولد سنة إحدى وثمانين ومائة وله من العمر أربع وسبعون سنة وله خمسة عشر حديثا هي ثلاثيات وأبي الحسن علي بن عمر الدار قطني بفتح الراء ويسكن وبضم القاف وسكون الطاء بعده نون نسبة لدار القطن وكانت محله كبيرة ببغداد وهو إمام عصره وحافظ دهره صاحب السنن والعلل وغيرهما انتهى إليه علم الأثر والمعرفة بعلل الحديث وأسماء الرجال وأحوال الرواة مع الصدق والأمانة والثقة والعدالة وصحة الاعتقاد والتضلع بعلوم شتى كالقراءة وله فيها كتاب لم يسبق إلى مثله أخذ عنه الأئمة كأبي نعيم والحاكم أبي عبد الله النيسابوري والبرقاني والشيخ أبي حامد الإسفراييني والقاضي أبي الطيب الطبري والجوهري وغيرهم ولد سنة خمس وثلثمائة ومات ببغداد خمس وثمانين وثلثمانة وأبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي نسبة لبيهق على وزن صيقل بلد قرب نيسابور وهو الإمام الجليل الحاقظ الفقيه الأصولي الزاهد الورع وهو أكبر أصحاب الحاكم أبي عبد الله وقد أخذ عن ابن فورك وأبي عبد الرحمن السلمي روي أنه اجتمع جمع كثير من العلماء في مجلس الحاكم أبي عبد الله وقد ترك الحاكم راويا من إسناد حديث فنبه عليه البيهقي فتغير الحاكم فقال البيهقي لا بد من الرجوع إلى الأصل فحضر الأصل فكان كما قال البيهقي رحل إلى الحجاز والعراق ثم اشتغل بالتصنيف بعد أن صار واحد زمانه وفارس ميدانه وألف كتابه السنن الكبير وكتاب المبسوط في نصوص الشافعي وكتاب معرفة السنن والآثار وقيل وصل تصانيفه إلى ألف جزء ومن تصانيفه دلائل النبوة وكتاب البعث والنشور
وكتاب الآداب وكتاب فضائل الصحابة وفضائل الأوقات وكتاب شعب الإيمان وكتاب الخلافيات وكان له غاية الإنصاف في المناظرة والمباحثة وكان على سيرة العلماء قانعا من الدنيا باليسير متجملا في زهده وورعه صائم الدهر قبل موته بثلاثين سنة قال إمام الحرمين ما من شافعي إلا وللشافعي في عنقه منه إلا البيهقي فإنه له على الشافعي منه لتصانيفه في نصرة مذهبه وأقاويله توفي بنيسابور سنة ثمان وخمسين وأربعمائة وحمل تابوته إلى قرية من ناحية بيهق وهل من العمر أربع وسبعون سنة قيل مولده أربع وثمانين وثلاثمائة وأبي الحسن رزين بفتح الراء وكسر الزاي ابن معاوية العبدري بفتح العين المهملة وسكون الموحدة وفتح الدال المهملة وبالراء المخففة منسوب إلى عبد الدار بن قصي بطن من قريش وهو الحافظ الجليل صاحب كتاب التجريد في الجمع بين الصحاح مات بعد العشرين وخمسمائة وغيرهم بالجر عطفا على أبي عبد الله وقيل بالرفع عطفا على مثل وقليل ما ما زائدة إبهامية تزيد الشيوع والمبالغة في القلة هو أي غيرهم الإفراد للفظ غير هم وهو مبتدأ خبره قليل ونظيره إلا الدين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم ص فلما انتهى الكلام على آخر الرجال المذكورين والأئمة المشهورين سنح بالخاطر الفاتر ما ذكره السادات الصوفية أرباب الهداية إن النهاية هي الرجوع إلى البداية فأنتج أن أختم ذكرهم بمناقب الإمام الأعظم والهمام الأقدم ليكون كمسك الختام وقد ذكره المؤلف أيضا في أسماء رجاله راجيا حصول بركة كماله لكن بعد ذكر الإمام مالك وأورد اعتذارا عن ذلك بقوله وقد بدأنا بذكره لأنه المقدم زمانا وقدرا ومعرفة وعلما قلت كل ذلك بالنسبة إلى إمامنا غير صحيح أما تقدم زمان أبي حنيفة عليه فصريح إذ ولد مالك سنة خمس وتسعين وولد أبو حنيفة سنة ثمانين وأما تقدم قدره على أبي حنيفة فمردود لأنه من أتباع التابعين وإمامنا من التابعين كما ذكره السيوطي وغيره وقد ورد في الحديث النبوي خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم وأما معرفته فمعروفة لأنها عمت الخلق شرقا وغربا سيما في بلاد ما وراء النهر وولاية الهند والروم فإنهم لا يعرفون إماما غيره ولا يعلمون مذهبا سوى مذهبه وبالجملة فأتباعه أكثر من أتباع جميع الأئمة من علماء الأمة كما أن أتباع النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من أتباع سائر الأنبياء وقد ورد إنهم ثلثا أهل الجنة والحنفية أيضا تجيء ثلثي المؤمنين والله أعلم وأما علمه فيكفي ما قال الشافعي في حقه الخلق كلهم عيال أبي حنيفة في الفقه والعذر في كثرة استغاله بالأمور الفقهية من المسائل الفرعية والدلائل الأصولية أنه رأى أنه الأهم واحتياج الناس إليه أتم وهو ي الحقيقة اشتغال بالمعنى المعبر عنه بالدراية وهو مفضل على التعليق بالمبنى الذي يقال له الرواية وبهذا فاق على أقرانه من المحدثين وغيرهم وقد سأله الأوزاعي عن مسائل وأراد البحث معه بوسائل
فأجاب على وجه الصواب فقال له الأوزاعي من أين هذا الجواب فقال من الأحاديث التبي رويتموها ومن الأخبار والآثار التي نقلتموها وبين له وجه دلالاتها وطريق استناطاتها فأتصف الأوزاعي ولم يتسعف فقال نحن العطارون وأنتم الأطباء أي العارفون بالداء والدواء وأيضا كان عنده أن نقل الحديث الشريف لا يجوز إلا باللفظ دون المعنى فهذا الاعتبار يقل التحديث بالمبني مع أن له مسانيد متعددة وأسانيد معتمدة يعرفها أهل الخبرة ويحكمون عليه بأنه من أهل البصرة ثم يدل على علو سنده أنه روى الشافعي في مسنده عن محمد بن الحسن عن أبي يوسف عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما لما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الولاء لحمة كلحمة النسب لا يباع ولا يوهب كذا ذكره الشمني شارح النقاية في فصل الولاء وذكر الإمام النووي في تهذيب الأسماء نقلا عن الخطيب البغدادي إن الإمام الشافعي روى عن محمد بن الحسن وقال الفاضل تلميذ الإمام ابن الهمام في شرح التحرير ذكر أصحاب الشافعي وغيرهم أنه قال الشافعي حملت عن محمد ابن الحسن وقرئ بحثي كبتا وقال أبو إسحاق في الطبقات روى الربيع قال كتب الشافعي إلى محمد بن الحسن وقد طلب منه كتبا ينسخها فأخرها عنه قل للذي لم ترعينا من رآه مثله ومن كان من رآه قد رأى من قبله العلم ينهى أهل أن يمنعوه أهله لعله يبذله لأهله لعله وفي الحقائق شرح المنظمومة قال الشافعي الحمد لله الذي أعانني على الفقه بمحمد ابن الحسن انتهى محمد له الرواية عن أبي حنيفة ومالك كما يدل موطأ الإمام محمد ولما ذكر شيخنا العالم العلامة والبحر الفهامة شيخ الإسلام ومفتي الأنام صاحب التصانيف الكثيرة والتآليف الشهيرة مولانا وسيدنا الشيخ شهاب الدين بن حجر المكي مناقب الإمام مالك وأحمد بن حنبل والشافعي في شرح المشكأة قال تعين علينا إذ ذكرنا تراجم هؤلاء الأئمة الثلاثة أن نختم برابعهم المقدم عليهم تبركا به لعلو مرتبته ووفور علمه وورعة وزهده وتحليته بالعلوم الباطنية فضلا عن الظاهره بما فاق فيه أهل عصره وفاز بحسن الثناء عليه وإذاعة ذكره وهو الإمام الأعظم ففيه أهل العراق ومن أكابر التابعين أبو حنيفة النعمان بن ثابت بن زوطي بضم الزاي وفتح الطاء ابن ماه مولى تيم الله بن ثعلبة
الكوفي وروى الخطيب بإسناده عن حفيده عمر بن حماد بن أبي حنيفة أن ثابتا ولد على الإسلام وزوطي كان مملوكا لبني تيم فأعتقوه فصار ولاؤه لهم وأنكر إسماعيل أخو عمر المذكور حفيدة أيضا ابن حماد بن أبي حنيفة ذلك وقال إن والد ثابت عن أبناء فارس وأنهم أحرار والله ما وقع علينا رق قط ولد جدي سنة ثمانين وذهب بثابت أبيه إلى علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وهو صغير فدعا له بالبركة فيه وفي ذريته ونحن نرجو من الله أن يكون ذلك قد استجيب من علي فينا ه وهو كما رجا فقد بارك الله في أبي حنيفة بركة لا نهاية لأقصاها ولا غاية لمنتهاها وبارك في أتباعه فكثروا في سائر الأقطار وظهر عليهم من بكرة صدقه وإخلاصه ما اشتهر به في سائر الأمصار أخذ الفقه عن حماد بن أبي سليمان وأدرك أربعة من الصحابة بل ثمانية منهم أنس وعبد الله بن أبي أوفى وسهل بن سعد وأبو الطفيل وقيل ولم يلق أحدا منهم قلت لكن من حفظ حجة على من لم يحفظ والمثبت مقدم على الناقي وسمع من عطاء وأهل طبقته روى عنه عبد الله بن المبارك ووكيع بن الجراح وخلائق لا يحصون وهو من أهل الكوفة وكان يزيد بن هبيرة واليا على العراق لبني أمية فكلمه في أن يلي له قضاء الكوفة فأبى عليه فضربه مائة سوط في كل يوم عشرة أسواط وهو مصمم على الامتناع فلما رأى ذلك منه خلى سبيله وكان الإمام أحمد إذا ذكر ضربه على القضاء وامتناعه منه بكى وترحم عليه قلت وكأنه اقتدى به في تحمل ضربه في مسألة خلق القرآن واستدعاه المنصور أبو جعفر أمير المؤمنين من الكوفة إلى بغداد ليوليه القضاء فأبى فحلق عليه ليفعلن فحلف أبو حنيفة أنه لا يفعل وتكر هذا منهما فقال الربيع الحاجب ألا ترى أمير المؤمنين يحلف قال أبو حنيفة أمير المؤمنين على كفارة إيمانه أقدر مني على كفارة أيماني فأمر به إلى السجن في الوقت وفي رواية دعاه أبو جعفر إلى القضاء فأبى فحبسه ثم دعا به فقال أترغب عما نحن فيه فقال أصلح الله أمير المؤمنين لا أصلح للقضاء فقال له كذبت ثم عرض عليه فقال أبو حينفة قد حكم علي أمير المؤمنين أني لا أصلح للقضاء لأنه نسبي إلى الكذب فإن كنت كاذبا فلا أصلح وإن كنت صادقا فقد أخبرت أني لا أصلح فرده إلى السجن فقال الربيع بن يونس رأيت المنصور يجادله في أمر القضاء وهو يقول اتق الله ولا تشرك في أمانتك إلا من يخاف الله والله ما أنا مأمون الرضا فكيف أكون مأمون الغضب فلا أصلح لذلك فقال له كذبت أنت تصلح فقال قد حكمت على نفسك كيف يحل لك أن تولي قاضيا على أمانتك وهو كذاب وذكر أبو حنيفة عند ابن المبارك فقال أتذكرون رجلا عرضت عليه الدنيا بحذاقيرها ففر منها وكان حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح يعرف بريح الطيب إذا قيل كثير الكرم حسن المواساة لإخوانه ربعة أحسن الناس منطقا وأحلاهم نعمة قال قدمت البصرة فظنت أني لا أسال عن شيء إلا أجبت عنه فسألوني عن أشياء لم يكن عندي فيها جواب فجعلت على نفسي أن لا أفارق حمادا حتى يموت فصحبته ثماني عشرة سنة ثم ما صليت صلاة منذ مات إلا استغفرت له قبل أبوي أو قال مع والدي وإني لأستغفر لمن تعلمت منه
علما أو تعلم مني علما قال دخلت على المنصور فقال عمن أخذت العلم فقلت عن حماد عن إبراهيم النخعي عن عمر وعلي وابن مسعود وابن عباس فقال المنصور بخ بخ استوفيت يا أبا حنيفة ورأى أبو حنيفة في النوم كأنه نبش قبر النبي صلى الله عليه وسلم فبعث من سأل محمد ابن سيرين فقال صاحب هذا الرؤيا ولم يجب عنها ثم سأله الثانية فقال مثل ذلك ثم سألت الثالثة فقال صاحب هذه الرؤيا يبرز علما لم يسبقه أحد إليه ممن قبله وقال ابن المبارك كان أبو حنيفة آية فقيل له في الخير أم في الشر قال اسكت يا هذا فإنه يقال إنه آية في الخير وغاية في الشر ثم تلا وجعلنا ابن مريم وأمه آية المؤمنون وقال كان يوما في الجامع فوقعت حية فسقطت في حجرة فهرب الناس وهو لم يزد على نفضها وجلس مكانه وكان خزازا يبيع الخز ودكانه معروف في دار عمرو بن حريث ومات أخو سفيان الثوري فاجمتع إليه الناس فعزائه فجاء أبو حنيفة فقام إ ليه سفيان وأكرمه وأقعده في مكانه وقعد بين يديه ولما تفرق الناس قال أصحاب سفيان رأيناك فعلت شيئا عجيبا قال هذا رجل من العلم بمكان فإنه لم أقم لعلمه قمت لسنه وإن لم أقم لسنة قمت حتى أيقظهم أبو حنيفة بما فتقه وبينه وقال الشافعي الناس عيال أبي حنيفة في الفقه وفي رواية من أراد أن يتبحر في الفقه فليلزم أبا حنيفة وأصحابه وقال جعفر بن الربيع أقمت على أبي حنيفة خمس سنين فما رأيت أطول صمتا منه فإذا سئل عن شيء من الفقه سال كالوادي وقال ابن عيينة ما قدم مكة في وقتنا رجل أكثر صلاة منه وقال يحيى بن أيوب الزاهد كان أبو حنيفة لا ينام في الليل وقال أبو عاصم كان يسمي الوتد لكثرة صلاته وقال زفر كان يحيى الليل كله بركعة يقرأ فيها القرآن وقال أسد بن عمرو صلى أبو حنيفة صلاة الفجر بوضوء العشاء أربعين سنة وكان عامة الليل يقرأ القرآن في ركعة وكان يسمع بكاؤه حتى يرحكم عليه جيرانه وحفظ عليه أنه ختم القرآن في الموضع الذي توفي فيه سبعة آلاف ختمة ولما غسله الحسين بن عمارة قال له غفر الله لك لم تفطر منذ ثلاثين سنة ولم تتوسد يمينك في الليل منذ أربعين سنة ولقد أتعبت من بعدك وقال ابن المبارك إنه صلى الخمس بوضوء واحد خمسا وأربعين سنة وكان يجمع القرآن في ركعتين وقال زائدة صليت معه في مسجده العشاء وخرج الناس ولم يعلم إني في المسجد فأردت أن أسأله مسأل فقام وافتتح الصلاة فقرأ حتى بلغ هذه الآية فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم الطور فلم يزل يرددها حتى أذن المؤذن للصبح وأنا أنتظره وقال القاسم بن معن قام أبو حنيفة ليلة بهذه الآية بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر القمر يرددها ويبكي ويتضرع وقال وكيع كان أبو حنيفة قد جعل على نفسه أن لا يحلف باله في عرض كلامه إلا تصدق بدرهم فحلف فتصدق به ثم جعل إنه حلف أن يتصدق بدينار
فكان إذا حلف صادقا في عرض كلامه تصدق بدينار وكان إذا أنفق على عياله نفقة تصدق بمثلها وكان إذا اكتسى ثوبا جديدا كسى بقدر ثمنه الشيزخ من العلماء وكان إذا وضع بين يديه الطعام أخذ منه ضعف ما يأكله فيجعله على الخبز ثم يعطيه الفقير ووهب لمعلم ابنه حماد خمسمائة درهم لما ختم وجاءته امرأة تشتري منه ثوب خز فأخرج لها ثوبا فقالت إنها ضعيفعة وإنها أمامنه فبعنيه بما يقوم عليك فقال خذيه بأربعة دراهم فقالت لا تسخر بي وأنا عجوز كبيرة فقال إني اشتريت ثوبين فبعث أحدهما برأس المال إلا أربعة دراهم فبقي هذا بأربعة دراهم وقال ابن المبارك للثوري ما أبعد أبا حنيفة عن الغيبة ما سمعته يغتاب عدوا له قط قال والله إنه أعقل من أن يسلط على حسناته ما يذهب بها وقال إسماعيل حفيده كان عندنا رافضي له بغلان سمى أحدهما أبا بكر والآخر عمر فحرمه أحدهما فقتله فقيل لجدي فقال ما قتله إلا المسمى بعمر فكان كذلك قلت لأنه مظهر الجلال وأبو بكر مظهر الجمال وكان بعض جماعة المنصور ببغضه فما رآنه عند المنصور قال اليوم أقتله ثم قال له إن أمير المؤمنين يأمرنا بضرب عنق الرجل ما ندري ما هو فهل لنا قتله قال أمير المؤمنين يأمر بالحق أو بالباطل قال بالحق قال الزم الحق حيث قال ولا تسأل عنه ثم قال لمن قرب منه إن هذا أراد أن يوبقني فربطته ولد سنة ثمانين من الهجرة وتوفي ببغداد وقيل في السجن على أن يلي القضاء سنة خمسين على المشهور أو إحدى أو ثلاث وخمسين ومائة في رجب ببغداد وقبره بها يزار ويتبرك به ومن ورعة أنه أراد شراء أمة يتسرى بها فاستمر عشرين سنة يفتش السبايا ويسأل عنهن حتى اطمأنت نفسه بشراء واحدة ومن كراماته أن أبا يوسف هرب صغيرا إليه من أمه ليتمه وفقره فجاءت أمه للإمام وقالت له أنت الذي أفسدت ولدي فأعطاه لها ثم هرب إليه وتكرر منه ذلك فقال له الإمام وهو على تلك الحالة الضيقة كيف بك وأنت تأكل الفالوذج في صحن الفيروزج فلما توفي ووصل أبو يوسف عند الرشيد ما وصل دعاه الرشيد يوما وأخرج له فالوذجا كذلك فضحك أبو يوسف فعجب منه الرشيد فسأله فقال رحم الله أبا حنيفة وقص عليه القصة ه كلام الشيخ ابن حجر ملخصا واكتفينا بكلامه فإنه على المخالفين حجة وفيما نقله للموافقين كفاية لأن المطنب في نعته مقصر والمسهب في منقبته مختصر وقد حكى أن الشافعي سمع رجلا يقع في أبي حنيفة فدعاه وقال يا هذا أتقع في رجل سلم له جميع الناس ثلاثة أرباع الفقه وهو لا يسلم له الربع قال وكيف ذلك
قال الفقه سؤال وجواب وهو الذي تفرد بوضع الأسئلة فسلم له له نصف العلم ثم أجاب عن الكل وخصومه لا يقولون إنه أخطأ في الكل فإذا جعل ما واقفوا فيه مقابلا بما خالفوا فيه سلم له ثلاثة أرباع العلم وبقي الربع مشتركا بين الناس ومما ذكره ابن حجر في مناقبه المسمى بالخيرات الحسان أن الشافعي قال قلت لمالك رأيت أبا حنيفة فقال رأيته رجلا لو كلمك في السارية أن يجعلها ذهبا لقام بحجته ولما دخل الشافعي بغداد زار قبره وصلى عنده ركعتين فلم يرفع يديه في التكبير وفي رواية أن الركعتين كانتا الصبح وأنه لم يقنت فقيل له في ذلك فقال أدبنا مع هذا الإمام أكثر من أن تظهر خلافه بحضرته قال ابن حجر وتلمذ له كبار من الأئمة المتجتدين والعلماء الراسخين عبد الله بن المبارك والليث بن سعد الإمام مالك بن أنس ه ومنهم داود الطائي وإبراهيم ابن أدهم وفضيل بن عياض وغيرهم من أكابر السادة الصوفية رضي الله عنهم أجمعين وما استظل بحائط المديون حين أتاه متقاضيا وتصدق بجميع مال أتى به وكيله إليه لما خلط ثمن ثوب معيب بيع مخفيا قيل وكان المال ثلاثين ألفا وترك لحم الغنم لما فقدت شاة في الكوفة سبع سنين لما قيل إنها أكثر ما تعيش فيه ثم اعلم أن المؤلف لما قال فيما قدمه فأعلمت ما أغفله استشعر اعتراضا بأن الإعلام الحقيق إنما هو بإيراد الإسناد الكلبي ليترتب عليه معرفة رجاله التي يتوقف عليها الحكم بصحة الحديث وحسنه وضعفه وسائر أحواله فاعتذر عن الأشكال فقال وإني إذا نسبت الحديث أي كل حديث إليهم أي إلى بعض الأئمة المذكورين المعروفة كتبهم بأسانيدهم بين العلماء المشهورين كأبي أسندت أي الحديث برجاله إلى النبي صلى الله عليه وسلم أي فيما إذا كان الحديث مرفوعا وهو الغالب وإلى أصحابه إذا كان موقوفا وهو المرفوع حكما لأنهم أي الأئمة قد فرغوا منه أي من الإسناد الكامل بذكرهم قال ابن حجر أي من الإسناد المفهوم من أسندت على حد وأن تعفوا أقرب للتقوى البقرة ه ولا يخفى أن قوله وأن تعفوا بتأويل المصدر مبتدأ خبره أقرب للتقوى والتقدير وعفوكم أقرب للتقوى نحو وأن تصوموا خير لكم البقرة فالصواب أنه على حد اعدلوا هو أقرب للتقوى ثم في أصله على حد وأن تعفوا هو أقرب وهو إما سهو من الكتاب أو وهم من مصنف الكتاب والله أعلم بالصواب وأغنونا بهمزة قطع أي وجعلونا في غنى وكفاية عنه أي عن تحقيق الإسناد من وصله وقطعه ووقفه ورفعه وضعفه وحسنه وصحته ووضعته ومن ثم لزم الأخذ بنص أحدهم على صحة السند أو الحديث أو على حسنة أو أضعفه أو وضعه فعلم من كلام المصنف أنه يجوز نقل الحديث من الكتب المؤلفة المتعمدة التي اشتهرت أو صحت نسبتها لمؤلفيها كالكتب الستة وغيرها من الكتب المؤلفة وسواء في جواز نقله مما ذكر أكان نقله للعمل بمضمونه ولو في الأحكام أو للاحتجاج ولا يشترط تعدد الأصل المنقول منه وما اقتضاه كلام ابن الصلاح من اشتراطه حملوه على الاستحباب والاستظهار ولكن يشترط في ذلك الأصل أن يكون قد قوبل على أصل معتمد مقابلة صحيحة لأنه حينذ يحصل به الثقة التي مدار الاعتماد عليا صحة واحتجاجا نعم نسخ الترمذي مختلفة كثيرا في الحكم على الحديث بل وسنن أبي داود أيضا فلا بد من المقابلة على أصول معتمدة منهما وعلم من كلام المصنف أيضا أنه لا يشترط في النقل من الكتب المعتمدة للعمل والاحتجاج أن يكون له به رواية إلى مؤلفيها ومن ثم قال ابن برهان ذهب الفقهاء كافة إلى أنه لا يتوقف العمل بالحديث على سماعه بل إذا صحت عنده النسخة من السنن جاز له العمل بها وإن لم يسمع وشذ بعض المالكية فقال اتفق العلماء على أنه لا يصح لمسلم أن يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا حتى يكون عنده ذلك القول مرويا ولو على أقل وجود الروايات لقوله عليه الصلاة والسلام من كذب علي متعمدا فلينبوأ مقعده من النار وفي رواية بحذف متعمدا وتبعه الحافظ الزين العراقي فإنه بعد أن قرر أنه يقبح للطالب أن لا يحفظ بإسناده عدة أحاديث يتخلص بها عن كذا وعن كذا قال ويتخلص به من الجرح بنقل ما ليست له به رواية فإنه غير سائغ بإجماع أهل الدراية وانتصر جماعة للأول وقد يجمع بين الإجماعين المتعارضين بحمل الأول على ما إذا نظر في الأصل المعتمد وأخذ منه الحديث للعمل أو الاحتجاج والثاني على ما إذا حدث بأحاديثهما موهما نسبتها إليه قراءة وإسنادا فهذا لا يجوز لما فيه من مزيد التعزيز وبهذا اندفع ما أورد على الثاني من أنه يلزم عليه منع إيراد ما في الصحيحين أو أحدهما لم لا رواية له به وجواز نقل ما له به رواية وإن كان ضعيفا وسردت الكتب والأبواب أي أوردتها ووضعتها متتابعة متوالية كما سردها أي رتبها وعينها الإمام البغوي في المصابيح واقتفيت أي اتبعت أثره بفتحتين وقيل بكسر الهمزة وسكون المثلثة أي طريقة فيها أي الكتب والأبواب من غير تقديم وتأخثر وزيادة عنوان وتغيير فإن ترتيبه على وجه الكمال وتبويبه في غاية من الحسن والجمال ويحتمل أن يكون تأكيدا لكمال المتابعة وتبرئة عما قد يرد على إيراده بعض الكتب والأبواب من وجوه المناسبة وقسمت بالتخفيف كل باب وكذا كل كتاب أي جعلته مقسوما غالبا أي في غالب الأحوال على فصول ثلاثة وقيد الغالبية بمعنى الأكثرية لأنه قد لا يوجد الفصل الثاني أو الثالث أو كلاهما في بعض الأبواب
من الكتاب أولها أي أول الفصول في هذا الكتاب بدل قول البغوي في المصابيح من الصحاح ما أخرجه أي أورده أو أخرجه من بين الأحاديث الشيخان أي بزعم صاحب المصابيح لما سيأتي من قوله وإن عثرت على اختلاف الفصلين أو المراد في الغالب والنادر كالمعدوم أو أحدهما أي أحد الشيخين بزعمه أيضا وهما البخاري ومسلم في اصطلاح المحدثين وأبو يوسف ومحمد عند فقهاء الحنفية والرافعي والنووي عند الشافعية واكتفيت وفي نسخة واكتفى وهو يحتمل المعلوم التفاتأ والمجهول من الماضي والمضارع المتكلم المعروف وهو الأظهر بهما أي بذكرهما في التخريج وإن شرك وصلية لا تطلب جزاء ولا جوابا فيه أي في تخريجه الغير أي غيرهما من المحديثين والمخرجين كبقية الكتب الستة ونحوها لعلو درجتهما أي على سائر المخرجين مع الفرق بينهما في الرواية متعلق بالعلو أي في شرائط إسنادها والتزام صحتها ما لم يلتزمه غيرهما من المحدثين وإن كان غيرهما أعلى مرتبة منهما في علو الإسناد فإن البخاري أخذ عن أحمد بن حنبل وهو أخذ عن الشافعي وهو عن مالك ولذا قال بشر الحافي إن من زينة الدنيا أن يقول الرجل حدثنا مالك كذا وهذا يحتمل أن يكون مدحا للإسناد بمتقضى العلم الظاهر ويحتمل ذما بناء على التصوف الذي مبناه على علم الباطن كما قال بعضهم حدثتا باب من أبواب الدنيا ولكنه محمول على ما إذا كان قصده السمعة وغرضه الرياء ثم أعلم أن الأئمة قد اختلفوا في شرطهما الذي التزماه فإنه لم يصرح واحد منهما به في كتابه والأظهر ما قاله أبو عبد الله الحاكم وصاحبه البيهقي إن شرطهما أن يكون للصحابي المشهور بالرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم روايان فأكثر ثم يكون للتابعي المشهور راويان ثقتان ثم يرويه عنه من أتباع التابعين الحافظ المتقن المشهور وله رواة ثقات من الطبقة الرابعة ثم يكون شيخ البخاري أو مسلم حافظا متقنا مشهورا بالعدالة في روايته وله رواه ثم يتداوله أهل الحديث بالقبول إلى وقتنا هذا كالشهادة على الشهادة وقال شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر العسقلاني وهو وإن انتقض في بعض الصحابة الذين أخرجا لهم فهو معتبر فيمن بعدهم فليس في استثناء الصحابة أصلا من رواية من ليس له إلا راه واحد فقط هأ قيل والحاكم موافق على استنثاء الصحابة فكأنه رجع عن الأول ثم المراد بقوله في مستدركه على شرطهما أو شرط أحدهما عند النووي وابن دقيق العيد والذهبي كابن الصلاح أن يكون رجال ذلك الإسناد بأعيانهم في كتابيهما أو كتاب أحدهما وإلا قال صحيح فحسب ومخالفته لذلك في بعض المواضع تحمل على الذهول هذا وقال السيد جمال الدين لو لم يكتف المصنف بهما وذكر في كل حديث غيرهما ممن رواه كان أولى وأنسب وأحرى وأصوب لأن الحديث وإن كان في أصل الصحة لا يحتاج إلى غيرهما لكن في الترجيح لا يستغنى عن ذكر غيرهما لأن
الحديث الذي رواه الستة مثلا لا شك في ترجيحه على الذي رواه الشيخان أو أحدهما ولم يخرجه غيرهما وثانيها أي ثاني الفصول وهو المعبر عنه في المصابيح بقوله من الحسان ما أورده غيرهما من الأئمة المذكورين وهو أبو داود والترمذي والنسائي والدارمي وابن ماجه فإن أحاديث المصابيح لا تتجاوز عن كتب الأئمة السبعة وأكثرها صحاح وثالثها وهو المعبر عنه بالفصل الثالث ما اشتمل على معنى الباب أي على معنى عقد له الباب ولم يذكره البغوي في الكتاب من ملحقات بفتح الحاء ومن بيانية لما اشتمل مناسبة بكسر السين أي مشاكله وفي صفة ملحقات والمراد به زيادات ألحقها صاحب المشكاة على وجه المناسبة بكل كتاب وباب غالبا لزيادة الفائدة وعموم العائدة مع محافظة على الشريطة أي من إضافة الحديث إلى الراوي الصحابة والتابعين ونسبته إلى مخرجه من الأئمة المذكورين ولما كان صاحب المصابيح ملتزما للأحاديث المرفوعة في كتابه في الفصلين ولم يلتزم المصنف ذلك نبه عليه بقوله وإن كان أي المشتمل مأثورا أي منقولا ومرويا عن السلف أي المتقدمين وهم الصحابة والخلف أي المتأخرين وهم التابعون واعلم أن تقديم السلف على الخلف ثابت في جميع النسخ المصححة وكأنه وقع في أصل ابن حجر سهو من تقديم الخلف على السلف واعتمد عليه ولتوجيهه تكلف وقال الخلف هم من بعد القرون الثلاثة الأول التي أشار صلى الله عليه وسلم إليها بقوله خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم وقدمهم مع أن رتبتهم التأخير كما صرح به هذا الحديث لأن تقديمهم أنسب بالغاية المذكورة لأنه إذا أتى بالمأنور عنهم فما من السلف أولى ه ولا يخفى أن هذا لا يصلح أن يكون سببا لتقديم الخلف على السلف نعم لو اقتصر على ذكر الخلف ونقل في كتابه عن السلف لكان يوجه بهذا التوجيه قال والسلف وهم أهل القرون الثلاثة الذي هم خير الأمة بشهادة نبيهم صلى الله عليه وسلم وزعم ابن عبد البر أنه قد يكون في الخلف من هو أفضل من الصحابة مما تفرد به والأحاديث التي استدل بها ضعيفة أو محمولة على أن لهم مزية من حيث قوة الإيمان بالغيب والصبر على مر الحق في زمن الجور الصرف والمفضول قد توجد فيه مزية بل مزايا لا توجد في الفاضل ومن ثمة قيل لابن المبارك إيما أفضل معاوية أو عمر بن عبد العزيز فقال الغبار الذي دخل في أنف فرس معاوية مع النبي صلى الله عليه وسلم خير من مثل عمر بن عبد العزيز كذا و كذا مرة ه ولا يخفى أن ابن عبد البر ما أراد إلا هذا المعنى بهذه الحيثية يعينها وهي أن الخلف قد يوجد فيهم ال كمالات العلمية و لرياضيات العملية والحقائق الأنسية والدقائق القدسية وحالات من الكرامات وخوارق العادات بحيث إنهم يكونون أفضل من بعض السلف ممن ليس له ذلك كأعرابي رأى النبي صلى الله عليه وسلم من بعد فإنه لا يقال في حقه
إنه من جميع الوجوه أفضل من جميع الخلف من الأئمة المجتهدين والمشايخ المعتبرين وأما فضيلة نسبة الصحبة فلا ينكر مؤمن شرفها فإنه بمنزلة الإكسير في عظم التأثير ثم تفسير السلف والخلف على ما شرحه وإن كان صحيحا في نفس الأمر ولكن لا يلائم كلام المصنف فإنه لا يروي في كتابه إلا عن الصحابة والتابعين ويدل عليه أسماء رجاله المحصورين في ذكر الصحابة والتابعين فإذا فسر السلف بهم لا يبقى لذكر الخلف معنى وهذا خلف ثم أي بعد ما ذكرت لك إني التزمت متابعة صاحب المصابيح في كل باب إنك أي أيها الناظر في كتابي هذا إن فقدت أي من محله حديثا أي من أصله الذي هو المصابيح في باب مثلا أو في كتاب أيضا والمعنى ما وجدته بالكلية لئلا يشكل بنقله من باب إلى باب كما فعله في مواضع من الكتاب فذلك أي الفقد وعدم الوجد ليس صادرا عن طعن أو سهو بل صدر عن تكرير أي عن وقوع تكرار وفع في المصابيح أسقطه أي أحذف ذلك الحديث لتكريره وأذكر في موضع آخر بعينه من غير تغييره إذ لا داعي إلى إتيانه بعد ظهوره وبيانه وإن وجدت آخر أي صادقت حديثا آخر بعضه بالنصب بدل بعض من كل أي حال كونه متروكا أي بعضه حال كونه جاريا أو بناء على اختصاره يعني اختصار محييى السنة ويؤيده قوله فيما بعد أتركه وألحقه ويحتمل عود الضمير إلى الحديث ويؤيده قوله أو مضموما إليه تمامه كذا ذكره شيخ مشايخنا ميركشاه واقتصر الطيبي على الأول وتبعه ابن حجر والأظهر الثاني كما أفاده السيد جمال الدين بأنه حينئذ يكون الكلام على نسبق واحد وأما على الأول فيحصل تفكيك الضمير وهو غير ملائم ثم المعنى أو وجدت حديثا آخر مضموما إليه تمامه الذي أسقطه البغوي أو أتى به في محل آخر فعن داعي اهتمام الفاء جزائية أي فذلك الترك والضم لم يقع اتفاقا وإنما صدر ونشأ عن موجب اهتمام وقيل عن بمعنى اللام أي فهو لأجل باعث اهتمام اقتضى أني اتركه أي على اختصاره في الأول وألحقه الواو بمعنى أو كما في نسخة أي وألحقه في الثاني لفوات الداعي والسبب إلى اختصاره فهو نشر مرتب قال الفاضل الطيبي وذلك بأن تلك الرواية كانت مختصرة عن حديث طويل جدا فأتركه اختصارا أو كان حديثا يشتمل على معان جمة يقتضي كل باب معنى من معانيه وأرود الشيخ كلا في بابه فاقتفينا أثره في الإيراد وما لم يكن على هذين الوضعين أتتمناه غالبا ه قال السيد جمال الدين كذا قرره الشارح وحرره وأسند الاختصار والإتمام بصيغة المتكلم مع الغير من غير أن ينقل هذا الكلام من المؤلف وهذا الأمر من الشارح يحتمل أن يحمل على سماعه من المصنف ويحتمل أن يكون مراد الشارح أن هذا مقصود الماتن والله أعلم وإن عثرت بتثليث المثلثة والفتح أولى أي اطلعت أيها الناظر في كتابي هذا على اختلاف أي بيني وبي صاحب المصابيح في الفصلين أي الأولين وبيان الاختلاف قوله
من ذكر غير الشيخين أي من المخرجين في الأول أي في الحديث المذكور في الفصل الأول وذكرهما أي أو من ذكر الشيخين في الثاني أي من الفصلين بأن يسند بعض الأحاديث فيه إليهما أو إلى أحدهما فاعلم جزاء الشرط أي إن اطلعت على ما ذكر فاعلم أنه ما صدر عني سهوا أو غفلة فلا تظن هذا واعلم أني بعد تتبعي أي تفحصي وتجسسي كتابي الجمع تثنية مضاف أي كتابين أحدهما الجمع بين الصحيحين أي بين كتابي البخاري ومسلم المسميين بالصحيحين للحميدي متعلق بالجمع وهو بالتصغير نسبة لجده الأعلى حميد الحافظ أبي عبد الله محمد بن أبي نصر الأندلسي القرطبي وهو إمام عالم كبير مشهور ورد بغداد وسمع أصحاب الدار قطني وغيرهم ومات بها سنة ثمانين وأربعمائة وجامع الأصول بالجر عطفا على الجمع أي والآخر جامع الأصول أي الكتب الستة للإمام مجد الدين أبي السعادات المبارك بن محمد الجزري الشهير بابن الأثير وله أيضا مناقب الأخيار وكتاب النهاية في غريب الحديث كان عالما محدثا لغويا وكان بالجزيرة وانتقل إلى الموصل ومات بها عام ست وستمائة اعتمدت على صحيحي الشيخين ومتنيهما عطف بيان وإنما لم يكتف بهما لأنه ربما يحتمل أن يتوهم أن تتبعه واستقراءه غير تام فإذا وافق الحميدي وصاحب جامع الأصول يصير الظن قويا بصحة استقراشه للموافقه ولو اكتفى بتتبع الجمع بن الصحيحين وجامع الأصول لاحتمل وقوع القصور في استقرائهما فبعد اتفاق الأربعة يمكن الحكم بالجزم على سهو البغوي وإن رأيت أي أبصرت أو عرفت أيها الناظر في المشكاة وأصلها مع أصولهما اختلافا في نفس الحديث أي في متنة لا إسناده بأن يكون لفظ الحديث في المشكاة مخالفا للفظ المصابيح فذلك أي الاختلاف ناشىء من تشعب طرق الأحاديث أي من اختلاف أسانيدها ورواتها حتى عند المؤلف الواحد إذ كثيرا ما يقع للشيخين أو أحدهما أو لغيرهما سوق الحديث الواحد من عدة طرق بألفاظ متباينة مختلفة المعاني تارة ومؤتلفتها أخرى ولعلي للإشفاق أي إذا وجدتني آثرت لفظ حديث على الذي رواه البغوي في المصابيح لعلي ما اطلعت أي ما وقفت على تلك الرواية التي سلكها الشيخ أي أطلقها وأوردها في مصابيحه رضي الله عنه إذ هو إمام كبير واطلاعه كثير فأحذفها وآتي باللفظ الذي اطلعت عليه وقليلا ما تجد زيادة ما لتأكيد القلة ونصب قليلا على المصدرية لقوله أقول أي وتجدني أقول قولا قليلا ما أي في غاية من القلة والمقول قوله ما وجدت هذه الرواية أي مثلا في كتب الأصول أي أصول الحديث من الكتب
المبسوطة التي هي أصول السبعة عند الشيخ أو مطلق الأصول ولا يبعد أن ينصب قليلا على الظرفيه أو وجدت من جملة المقول وأو للتنويع خلافها فيها أي خلاف هذه الرواية في الأصول فإذا وقفت عليه الضمير راجع إلى المصدر المفهوم من قوله أقول أي إذا أطلعت على قولي بمعنى مقولي هذا فانسب بضم السين أي مع هذا القصور أي التقصير في التتبع إلي لقلة الدراية أي درايتي وتتبع روايتي لا أي لا تنسب القصور إلى جانب الشيخ أي إلى جانبه وساحة بابه لأنه كان من الأئمة الحفاظ المتقنين والعلماء الكاملين الراسخين هذا ما ظهر لي من معنى الكلام في هذا المقام وقال ابن حجر فإذا وقفت أي فإذا حذفت لفظا وأتيت بغيره حسبما أطلعت عليه ووقفت أنت عليه أي على ذلك اللفظ في الأصول فانسب إلي آخره وأنا أقول أيضا بإلهام الناس الترضي والترحم عليه وفي العقبى بإعطاءه معالم القرب لديه حاشا بإثبات الألف لله أي تنزيلها له من ذلك أي من نسبة القصور إلى الشيخ وهذا غاية من المؤلف في تعظيمه ونهاية أدب منه في تكريمه وهو حقيق بذلك وزيادة فإن له حق الإفادة ونسبة السيادة قال ابن حجر حاشا حرف جر وضعت موضع التنزية والبراءة وفي مغني اللبيب الصحيح أن حاشا اسم مرادف للتنزيه من كذا وزعم بعضهم أنه اسم فعل معناه التبرئ والبراءة وقال الشيخ ابن حجر العسقلاني هو تنزيه واستثناء وقيل معناه معاذ الله وقيل إنه فعل قال السيد جمال الدين قيل الصحيح أنه اسم مرادف للتنزية بدليل أنه قرئ حاش لله يوسف في سورة يوسف بالتنوين وهو لا يدخل على الفعل والحرف وقرئ أيضا حاش الله بالإضافة وهي من علامات الاسم وحنيئذ قوله لله لبيان المنزة والمبرأ كأنه قال براءة وتنزيه ثم قال لله بيانا للمبرا والمنزه فلامه كاللام في سقيا لك فعلى هذا يقال معنى عبارة المشكاة أن الشيخ مبرا ومنزه عن قلة الدراية ثم أتى لبيان المنزة والمبرأ بقوله لله وكان الظاهر أن يقول الله بلا لام وكأنها لإفادة معنى الاختصاص فكأنه يقول تنزيهه مختص لله تعالى وله أن ينزهه وليس لغيره ذلك وفيه غاية التعظيم لما هنالك ويحتمل أن يكون التقدير وأقول في حقه التنزيه لله لا لأمر آخر وقيل حاشا فعل وفسر الآية بأنه معناها جانب يوسف الفاحشة لأجل الله وعلى هذا يرجع عبارة المشكاة بأنه جانب الشيخ ذلك القصور لأجل اله لا لغرض آخر أو قولنا في حقه حاشا إنما هو لله لا لأمر آخر وقيل إنه اسم فعل بمعنى أنزه أو تبرأت واللام علة وقيل إنه حرف وهو في هذا المقام ضعيف لأن كونه حرفا بمعنى الاستثناء وهو غير مستقيم هنا ولام الله أيضا يأبى عن الحرفية لأن الحرف لا يدخل على الحرف والله علم رحم الله جملة دعائية كقول عمر رضي الله عنه رحم الله امرأ أهدى إلي بعيوب نفسي أي اللهم ارحم من إذا وقف على ذلك أي على ما ذكر من الرواية التي أوردها الشيخ ولم أجدها في الأصول نبهنا عليه وأرشدنا فيه تجريد والمعنى هدانا طريق الصواب أي
إليه بنسبة الرواية وتصحيحها إلى الباب والكتاب وهو إما محمول على الحقيقة بالمشافهة حال الحياة أو على المجاز بكتابة حاشية أو شرح بعد الممات إذ التصنيف لا يغير وإلا لم يوجد كتاب يعتبر ولم آل بمد الهمزة وضم اللام من ألا في الأمر إذا قصر أي لم أترك حهدا أي سعيا واجتهادا وهو بضم الجيم وفتحه أي المشقة والطاقة وقيل بالضم الطاقة وبالفتح المشقة قال بعض الشراح معناه لم أمنعك جهدا وكأنه حمله عليه ما وجد في كلام العرب لا آلوك نصحا وقرر تركيب العبارة على حذف المفعول الأول واستعمل آلو بمعنى أمنع إما تجوزا وإما تضمينا ويلزم منه التقصير والحال أن المعنى على اللزوم صحيح بأن جهدا يكون تمييزا أو حالا بمعنى مجتهدا أو منصوبا بنزع الخافض أي في الاجتهاد وأن يكون على تقدير متعديا إلى مفعولين يمكن أن يضمن الترك فيكون متعديا إلى مفعول واحد هذا حاصل كلام السيد جمال الدين وقال البيضاوي في قوله تعالى لا يألونكم خبالا آل عمران أي لا يقصرون لكم في الفساد والآلو التقصير وأصله أن يعدى بالحرف ثم عديإلى مفعولين كقولهم لا آلوك نصحا على تضمين معنى المنع والنقص وقال أبو البقاء يألو يتعدى إلى مفعول واحد خبالا تمييز أو منصوب بنزع الخافض ويجوز أن يكون مصدرا في موضع الحال والأظهر ما حققه القاضي أنه في أصله لازم ففي عبارة المشكاة إما يضمن معنى الترك فيكون جهدا مفعولا به أو يبقي على معناه الألي وينصب جهدا على أحد الاحتمالا ت الثلاث والمعنى لم أقصر لكم أو الله في التنقير أي في البحث والتجسس عن طرق الأحاديث واختلاف ألفاظها والتفتيش عطف بيان لما قبله بقدر الوسع والطاقة أي بمقدار وسعي وطاقتي في التفحص ولا يكلف الله نفساط إلا وسعها البقرة والطاقة عطف بيان وإيراد الألفاظ المترادفة في الديباحات والخطب متعارف عند الفصحاء غير معايب عند البلغاء ونقلت ذلك الاختلاف أي المختلف فيه كما وجدت أي كما رأيته في الأصول ولا اكتفيت بتقليد الشيخ ولو كان هو من أجلاء أرباب النقول وقال ابن حجر أي ومن ثمة نقلت ذلك الاختلاف كما وجدته في الأصول من غير أن أتصرف فيه بتغيير أو بتبديل حتى أنسب كلا إلى مخرجه باللفظ والمعنى لا المعنى فحسب لوقوع الخلاف المشهور في جواز رواية الحديث بالمعنى وهو وإن جاز على الأصح للعارف بمدلولات الألفاظ ومعانيها لكن التنزه عنها أولى خروجا من الخلاف ه فتدبر يتبين لك الأظهر في حمل العبارة عليه وإن كان في أصل الكلام منه لا مناقشة لنا لديه مع أن التجويز المذكور والاختلاف المسطور إنما هو في نقل الراوي الحديث من شيخه أما مطلقا أو حال كونه ناسيا على المتعمد وأما نقل حديث من كتاب بالبخاري وغيره وإسناده إليه من غير أن يبين أنه نقل بالمعنى فلا يجوز إجماعا والله أعلم وما أشار إليه أي الشيخ محييى السنة صريحا أو كناية رضي الله عنه جملة دعائية معترضة بين المبين والمبين وهو قوله من غريب أي حديث غريب وهو ما تفرد به الراوي عن سائر رواته ولم يشرك معه أحدا في روايته عن الراوي عنه أوضعيف وهو ما لم يجتمع
فيه صفات الصحيح والحسن بأن يكون في أحد رواته قدح أو تهمه أو غيرهما اعتبارا لا حقيقية إذ ما عدا الصحيح والحسن داخل تحت أنواع الضعيف والمراد بغيرهما نحو منكر وهو ما رده قطعي أو رواه ضعيف مخالف لثقة أو شاذ وهو ما خالف الثقة من هو أوثق منه أو معلل وهو ما فيه علة خفية غامضة قادحة لم يدركها إلا الحذاق واعلم أن معرفة أنواع الحديث وبيان حدودها وما يتعلق بها من قيودها يحتاج إلى بسط في الكلام ليس هذا موضع إيرادها وقد أوردنا في شرح النخبة ما يستفيد بذكره المبتدئ ولا يستغني عن تذكره المتتهى بينت وجهه أي وجه غرابته أو غرابته أو ضعفه أو نكارته غالبا أي في أكثر المواضع ولعل ترك التبيين في بعض مواضعه لعدم العلم به أو لاختلاف فيه أو لغير هذا وقد قال السيد جمال الدين المتبادر إلى الفهم من هذه العبارة أن أحاديث الحسان من المصابيح المعبر عنه في المشكاة بالفصل الثاني كل حديث ذكر الشيخ فيه أنه غريب أو ضعيف أو منكر بين المصنف وجهه بأن يقول أي الراوي تفرد به أو غير ثقة أو مخالف لما هو أوثق ونحوه بذكره منشئه والحال أنه لم يفعل ذلك بل في كل حديث ذكر محيي السنة أنه ضعيف أو غريب ذكر المصنف قائله الذي هو الترمذي في غالب الأحوال من أرباب الأصول وعينه وغاية ما في الباب يشير الترمذي أحيانا إلى وجه الغرابة وبيان الضعف وهذا الصنيع من المصنف يقتضي أنه لم يجعل محيي السنة أهلا للحكم بالضعف والصحة في الحديث فلا جرم نسبته إلى من له أهلية ذلك انتهى فيكون المعنى بينت وجهه بنسبة الحكم عليه بذلك إلى أهله المرجوع إليهم فيه وهذا يحتمل على أن يكون تقوية للشيخ لا سلب الأهلية عنه فالعلمان خير من علم واحد بل في هذا هضم لنفس المصنف أن يكون له أهلية لذلك وما لم يشر إليه أي الشيخ مما في الأصول أي مما أشير إليه من المنقطع والموقوف والمرسل في جامع الترمذي وسنن أبي داود والبيهقي وهو كثير فقد قفيته بالتشديد أي تبعته تأسيا به كذا قاله الطيبي وتبعه ابن حجر وكتب ميرك في هامش الكتاب قفوته بالواو ورقم عليه ظ إشارة إلى أنه الظاهر وكتب عمه السيد جمال الدين في أول شرح المشكاة إن إصل سماعنا وجميع النسخ الحاضرة المعتمدة صححت بتشديد الفاء من التقفية وهي تستعمل في كلام العرب بعلى والباء وقد جاء في التنزيل وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم المائدة وتستعمل أيضا بمن والباء قال تعالى وقفينا من بعده الرسل البقرة والمعنى ههنا على التتبع فكان المناسب أن يكون بتخفيف الفاء وبالواو من القفو انتهى وحاصل المناقشة أنه بالتشديد متعد إلى مفعولين بأحد الاستعمالين المذكورين وبالتخفيف والباء غير وارد وكلاهما مدفوع فإنه ذكر في مختصر النهاية قفيته وأقفيته تبعته واقتديت به و في القاموس قفويه تبعته كتقفيته واقتفيته وقفيته زيدا أي أتبعته إياه ه والظاهر من الآيات القرآنية أن قفي بالتشديد متعد بنفسه إلى واحد وبالباء إلى اثنين ولذا قال البيضاوي في قوله تعالى وقفينا من بعده بالرسل البقرة أي
بمشكاة المصابيح أرسلنا على أثره الرسل كقوله تعالى ثم أرسلنا تترى المؤمنون يقال قفاه إذا اتبعه وقفاه به إذا أتبعه من القفا نحو ذنبه من الذنب انتهى وعلى تقدير تسليم أنه متعد بنفسه إلى مفعولين فأمره سهل بأن يكون لاالمعنى أتبعت نفسي إياه في تركه وهو يحتمل أن يكون من إضافة المصدر إلى فاعله أو مفعوله أي في ترك الشيخ الحكم على الحديث بشيء أو في ترك المشار إليه بالموافقة معه في السكوت عليه إلا في مواضع أي قليلة أبينها لغرض قال الفاضل الطيبي وذلك أن بعض الطاعنين أفرزوا أحاديث من المصابيح ونسبوها إلى الوضع ووجدت الترمذي صححها أو حسنها وغير الترمذي أيضا فبينته لرفع التهمة كحديث أبي هريرة المرء على دين حليلة فإنهم صرحوا بوضعه وقال الترمذي في جامعه إنه حسن وقال النووي في الرياض إنه صحيح الإسناد ومن الغرض أن الشيخ شرط في الخطبة أنه أعرض عن ذكر المنكر وقد أتى في كتابه بكثير منه وبين في بعضها كونه في الخطبة أنه أعرض عن ذكر المنكر وقد أتى في كتابه بكثير منه وبين في بعضها كونه منكرا وترك في بعضها فبينت أنه منكر ه قال السيد جمال الدين والجواب من قبل صاحب المصابيح أن يقال مراده أنه أعرض من المنكر المجمع على نكارته والذي أورده هو من قبيل المختلف فيه وصرح بإنكار البعض لئلا يحمل على ذهوله وأعرض عن بيان البعض لأن الحكم بنكارته كان غير معتبر عنده وربما بالتشديد أشهر واللتقليل أظهر ما كافة تجد أي أيها الناظر في المشكاة مواضع مهملة أي غير مبين فيها ذكر مخرجيها وذلك أي الإهمال وعدم التبيين حيث لم أطلع على راويه أي مخرجه فتركت البياض أي عقب الحديث دلالة على ذلك فإن عثرت عليه أي اطلعت أيها الناظر على مجرجه فألحقه أي ذكر المخرج به أي بذلك الحديث واكتبة في موضع البياض و قال ابن حجر ألحقه بذلك البياض وفيه مسامحة لا تخفى أحسن الله جزاءك أي على هذا العمل والجزاء ممدود بمعنى الثواب وفيه إشارة لما ورد عن أسامة مرفوعا من صنع إليه معروف فقال لفاعله جزاك اله خيرا فقد أبلغ في الثناء رواه الترمذي والنسائي وابن حبان هذا وقد بين بعض العلماء المواضع المهملة في حاشية الكتاب تكمله وترك البياض في أصل المصنف ليدل على أن التبيين من غير المؤلف وسميت الكتاب بمشكاة المصابيح قال الطيبي وعي المناسبة بين الاسم والمعنى فإن المشكاة يجتمع فيها الضوء فيكون أشد تقويا بخلاف المكان الواسع والأحاديث إذا كانت غفلا عن سمة الرواة انتشرت وإذا قيدت بالراوي انضبطت واستقرت في
مكانها ه وتبعه ابن حجر وقال ميرك لأظهر في وجه المطابقة أن كناية محيط ومشتمل على ما في المصابيح من الأحاديث كما أن المشكاة محيطة ومشتملة على المصباح ه ويمكن أن يقال مراده بالمصابيح الأحاديث الواردة في كتابه مما في المصابيح وغيره مشهبا بها لأنها آيات نورانية ودلالات برهانية صدرت من مشكاة صدر الأنبياء ليقتدي بها أمته من العلماء والأولياء في بيداء الضلالة وصحراء الجهالة وبهذا المعنى ورد أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم وشبه كتابه من حيث إنه جامع لها ومانع من تفرقها بالمشكاة وهي الكوة الغير النافذة ويحتمل أن يقال فيه معنى التورية وهي أن يؤتي بكلمة لها معنيان أحدهما قريب والآخر بعيد ويكون المراد البعيد وأسال الله التوفيق أي جعل أمور المريد على وفق المراد وهو في عرف العلماء خلق قدرة العبد في الطاعة والعبادة والإعانة أي في الدين والدنيا والآخرة أو على ما قصدت والهداية أي الدلالة على ما أردت أو ثبات الهداية من البداية إلى النهاية والصيانة أي الحفظ والحماية من العقائد الدينة والأحوال الردية أو العصمة عن الخطل الزلل أو عما يمنع إتمام الكتاب والتفتيش والتنقيرب وأن ينفعني به أي الله بهذا الكتاب على سبيل المجاز في الحياة أي بالمباشرة وبعد الممات بالسبية أو في الحياة بأن يجعله سببا لزيادة الأعمال وباعثا للترقي إلى علو الأحوال وبعد الممات بوصول أعلى الدرجات وحصول أعلى المقامات وجميع المسلمين والمسلمات عطف على الضمير المنصوب في ينفعني أي وأن ينفع بقراءته وكتابته ووقفه ونقله إلى البلدان ونحو ذلك حسبي الله وفي نسخة بواو العطف أي الله كافي في جميع أموري ونعم الوكيل أي الموكول إليه يعني هو المفوض إليه والمعتمد عليه والمخصوص بالمدح محذوف هو هو ولا حول أي عن مصية الله ولا قوة أي على طاعتبه إلا بالله أي بعصمته ومعونته العزيز أي الغالب على ما يريد أو البديع الذي ليس كمثله شيء الحكيم أي صاحب الحكم والحكمة على وجه الإتقان والإحكام قال ابن حجر ذكر هذين الاسمين لأنهما الواردان في ختم هذه الكلمة دون ما اشتهر من ختمها بالعلي العظيم على أن في بعض نسخ الحصين الحصين للحافظ الجزري رواية ختمها بالعلي العظيم فلعله رواية أخرى ه اعلم أن الرواية الصحيحة هي العزيز الحكيم على ما في مسلم كل نقله صاحب المصابيح وتبعه صاحب المشكاة وكذا هو في أصل الحصن الحصين وكتب على حاشيته العلي العظيم ونسب إلى البراز والله أعلم
ولما كان ينبغي لكل مصنف كما صرح به جمع من الأئمة أن يبدأ كتابه بالحديث الآتي المسمى بطليعة كتب الحديث تنبيها على تصحيح النية والإخلاص لكل من العالم والمتعلم وإنه الأساس الذي يبنى عليه جميع الأحوال من العقائد والأعمال وعلى أن أول الواجبات قصد المقصد بالنظر الموصل إلى معرفة الصمد فالقصد سابق وما بقي لاحق وإن طالب الحديث حكم المهاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فعليه أن يراعي الإخلاص ليصل إلى مقام الاختصاص بدأ به المصنف اقتداء بالبغوي لا تبعا للبخاري كما قاله ابن حجر فقال عن عمر بن الخطاب وهو الناطق بالصواب المسمى بالفاروق على ما دل عليه الكتاب وأول من سمي بأمير المؤمنين فيما بين الأصحاب رضي الله عنه وهو عدوي قرشي يجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في كعب بن لؤي كناه النبي صلى الله عليه وسلم بأبي حفص وهو لغة الأسد ولقبه بالفاروق لفرقاته بين الحق والباطل قال القاضي في تفسيؤره عند قوله تعالى يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت النساء عن ابن عباس رضي اله عنهما أن منافقا خاصم يهوديا فدعاه اليهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ودعاءه المنافق إلى كعب بن الأشرف ثم إنهما احتكما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحكم لليهودي فلم يرض المنافق وقال نتحاكم إلى عمر فقال اليهودي لعمر قضى لي رسول الله فلم يرض بقضائه وخاصم إليك فقال عمر للمنافق أكذلك قال نعم فقال مكانكما حتى أخرج إليكما فدخل فأخذ سيفه ثم خرج فضرب به عنق المنافق حتى برد وقال هكذا أقضي لمن لم يرض بقضاء الله ورسوله فنزلت وقال جبريل إن عمر فرق بين الحق والباطل فسمي الفاروق وقيل بإسلامه إذ أمر المسلمين قبله كان في غاية من الخفاء وبعده على غاية من الظهور والجلاء أسلم بعد أربعين رجلا وعشرة امرأة سنة ست من النبوة وقيل أسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة وثلاثون رجلا وست نسوة ثم أسلم عمر فنزلت يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين الأنفال بويع له بالخلافة بعد موت الصديق بعهده إليه ونصه عليه سنة ثلاث عشرة من الهجرة ففتح البلاد الكثيرة والفتوح الشهيرة واستشهد على يد نصراني اسمه أبو لؤلؤة غلام مغيرة بن شعبة بالمدينة في صلاة الصبح من يوم الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجة عام ثلاث وعشرين من الهجرة وهو ابن ثلاث وستين على الأصح وكانت خلافته عشر سنين ونصفا وصلى عليه صهيب روى عنه أبو بكر وباقي العشرة وخلق كثير من الصحابة والتابعين أحاديثه المرفوعة خمسمائة وسبعة وثلاثون له في الصحيحين أحد وثمانون انفرد البخاري منها بأربعة وثلاثين
ومسلم بأحد وعشرين نقش خاتمة كفى بالموت واعظا كان شديدا في أمر الله عاقلا مجتهدا صابرا محتسبا جعل الحق على لسانه وأعز الدين به واستبشر أهل السماء بإسلامه وله فضائل لا تحد وشمائل لا تعد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما الأعمال بالنيات قيل كلمة إنما بسيطة وقيل مركبة من إن وما الكافة أو الزائدة للتأكيد وقيل مركبة من إن النافية فهي عاملة بركنيها إيجابا ونفيا فيحرف التحقيق تثبت الشيء وبحرف النفي تنفي ما عداه وما اعترض عليه من لزوم اجتماع الضدين على شيء واحد ومن أن إن وما كلاهما يقتضي الصدارة مدفوع بأن هذا إنما هو قبل التركيب وأما بعده فقد صار علما مفردا على إفادة الحصر وتضاعيفه يفيد القصر لأنه ليس إلا تأكيدا للحكم على تأكيد واتفق أهل العربية والأصول على أنها موضوعة للحصر خلافا لما نقل عن أكثر النجاة لصحة إنما قام زيد في جواب هل قام عمرو كما يجاب بما قام إلا زيد ولورود قوله تعالى أنما على رسولنا البلاغ المبين المائدة وما على الرسول إلا البلاغ النور وإذا تقرر أنها للحصر فتثبت المذكور وتنفي الحكم عن غيره في نحو إنما قام زيد أي لا عمرو أو غير الحكم عن المذكور في نحو إنما زيد قائم أي لا قاعد ومما يدل له حديث إنما الماء من الماء فإن الصحابة الآخذين بقضيته لم يعارضهم جمهورهم القائلون بوجوب الغسل وغن لم ينزل بأن إنما لا تفيده وإنما عارضوهم بأدلة أخرى كحديث إذا التقى الختانان وجب الغسل وقد استدل ابن عباس لما تفرد به قيل ورجع عنه لما اشتد إنكار أبي سعيد الخدري عليه بخبر إنما الربا في النسيئة ولم تنازعه الصحابة فيه بل عارضوه في الحكم بأدلة أخرى فدل على اتفاقهم على أنها للحصر فالتقدير إن الأعمال تعتبر إذا كانت بنية ولا تعتبر إذا كانت بلا نية فتصير إنما بمعنى ما وإلا وقيل الحصر مستفاد من الجمع المحلى باللام فإنه مفيد للاستغراق وهو مستلزم للحصر فالتقدير إن الأعمال تعتبر إذا كانت بنية ولا تعتبر إذا كانت بلا نية فتصير إنما بمعنى ما وإلا وقيل الحصر مستفاد من الجمع المحلى باللام فإنه مفيد للاستغراق وهو مستلزم للحصر فالمعنى ليست الأعمال حاصلة إلا بالنية ولا يمكن هنا نفي نفس الأعمال لثبوتها حسا وصورة من غير اقتران النية بها فلا بد من إضمار شيء يتوجه إليه النفي ويتعلق به الجار فقيل التقدير صحيحة أو تصح كما هو رأي الشافعي وأتباعه وقيل كاملة أو تكمل على رأي أبي حنيفة وأصحابه والأظهر أن المقدر معتبرة أو تعتبر ليشمل الأعمال كلها سواء كانت عبادات مستقلات كالصلاة والزكاة فإن النية تعتبر لصحتها إجماعا أو شروطا في الطاعات كالطهارة وتسر العورة فإنها تعتبر لحصول ثوابها اتفاقا لعدم توقف الشروط على النية في الصحية خلافا للشافعي في الطهارة فعليه بيان الفرق أو أمورا مباحة فإنها قد تنقلب بالنيات حسنات كما أنها قد تنقلب سيئآت بلا خلاف غاية ما في الباب أن متعلق الصحة والكمال يعرف من الخارج ولا محذور فيه ويدل على ما قلنا إن الأعمال جمع محلى باللام فيستغرق كل عمل سواء كان
من العبادات أو غيرها ويشمل المتروكات أيضا فإنه لا ثواب في ترك الزنا والغضب ونحوهما إلا بالنية وإن كان صحيحة بدونها وكان هذا ملحظ من قال المراد أعمال المكلفين ويؤيده ما قال ابن دقيق العيد ولا تردد عتدي أن الحديث يشمل الأقوال ثم الباء للاستعانة وقيل للمصاحبة ليعلم منه وجوب المقارنة لكنها تشعر بوجوب استصحابها إلى آخر العمل لأنه الظاهر من المعية ولا قائل به نعم يشترط اتفاقا استصحابها مع العمل حكما بأن لا ينشىء منافيا وأيضا تشير إلى عدم جواز تقدمها على العمل وهو منقوض بنية الزكاة فإنها جائزة عند إفراد مال الزكاة وبنية الصوم في الليل فإنها أفضل بلا خلاف فالأولى هي الأولى وأوقات النيات في العبادات مختلفة محل بسطها الكتب الفقهيات والنية بتشديد الياء وقد تخفف لغة القصد وشرعا توجه القلب نحو الفعل ابتغاء لوجه الله والقصد بها تمييز العبادة عن العادة فإن قيل النية عمل من أعمال القلب فيحتاج إلى النية ويتسلسل أجيب بأن المراد أعمال الجوارح بدلالة العقل وبدليل الخبر المعتبر نية المؤمن خير من عمله وبدليل أن في العرف لا يطلق العمل على فعل التاوي ه وفيه أن سائر أعمال القلوب لا تعتبر شرعا إلا بالنية وأن معنى الحديث عمل النية خير من عمل الجارحة لوجوه ذكرها الحجة لفي الإحياء وأنه لا عبرة بالعرف مع أنه يختلف فالأظهر في الجواب استثناء النية وكذا الأمور الاعتقادية للدلالة العقلية ثم لا يخفى أن النية باللسان مع غفلة الجنان غير معتبرة لما ورد من إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم وفي رواية ولكن ينظر إلى قلوبكم ونياتكم فلو نوى الظهر بقلبه في وقته وتلفظ بنية العصر لا يضر ه بخلاف العكس وهذا معنى قولهم ولا معتبر باللسان واختلفوا في التلفظ بما يدل على النية بعد اتفاقهم أن الجهر بالنية غير مشروع سواء يكون إماما أو مأموما أو منفردا فالأكثرون على أن الجمع بينهما مستحب ليسهل تعقل معنى النية واستحضارها قال صاحب الهداية ويحسن لاجتماع عزيمته قال المحقق الإمام ابن الهمام قال بعض الحفاظ لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بطريق صحيح ولا ضعيف أنه كان عليه الصلاة والسلام يقول عند الافتتاح أصلي كذا ولا عن أحد من الصحابة والتابعين بل المنقول أنه كان عليه الصلاة والسلام إذا قام إلى الصلاة كبر وهذه بدعة ه قال وقد يفهم من قول المصنف لاجتماع عزيمته إذا قام إلى الصلاة كبر وهذه بدعة ه قال وقد يفهم من قول المصنف لاجتماع عزيمته أنه لا يحسن لغير هذا القصد وهذا لأن الإنسان قد يغلب عليه تفرق خاطره فإذا ذكر بلسانه كان عونا على جمعه ثم رأيته في التجنس قال والنية بالقلب لأنه عمله والتكلم لا معتبر به ومن أختاره أختاره لتجتمع عزيمته ه كلامه وقيل لا يجوز التلفظ بالنية فإنه بدعة والمتابعة كما تكون في الفعل تكون
في الترك أيضا فمن واظب على فعل لم يفعله الشارع فهو مبتدع و قد يقال نسلم إنها بدعة لكنها مستحسنة استحبها المشايخ للاستعانة على استحضار النية لمن احتاج إليها وهو عليه الصلاة والسلام وأصحابه لما كانوا في مقام الجمع والحضور لم يكونوا محتاجين إلى الاستحضار المذكور وقيل التلفظ شرط لصحة الصلاة ونسبوه إلى الغلط والخطأ ومخالفة الإجماع لكن له محمل عندنا مختص بمن ابتلي بالوسوسة في تحصيل النية وعجز من أدائها فإنه قيل في حقه إذا تلفظ بالنية سقط عنه الشرط دفعا للحرج وأغرب ابن حجر وقال إنه عليه الصلاة والسلام نطق بالنية في الحج فقسنا عليه سائر العبادات قلنا له ثبت العرش ثم انقش من جملة الواردات فإنه ما ورد نويت الحج وإنما ورد اللهم إني أريد الحج الخ وهو دعاء وإخبار لا يقوم مقام النية إلا بجعله إنشاء وهو يتوقف على العقد والقصد الإنشائي غير معلوم فمع يقوم مقام النية إلا بجعله إنشاء وهو يتوقف على العقد والقصد الإنشائي غير معلوم فمع الاحتمال لا يصح الاستدلال ومع عدم صحته جعله مقيسا محال ثم قال وعدم وروده لا يدل على عدو وقوعه قلنا هذا مردود بأن الأصل عدم وقوعه حتى يوجد دليل وروده وقد ثبت أنه عليه الصلاة والسلام قام إلى الصلاة فكبر فلو نطق بشيء آخر لنقلوه عنه وورد في حديث المسيء صلاته أنه قال له إذا قمت إلى الصلاة فكبر فدل على عدم وجود التلفظ وذكر أبو داود أنه قال قلت للبخاري هل تقول شيئا قبل التكبير فقال لا انتهى وبما ذكرناه يتبين فساد بقية كلام ابن حجر من قوله وأيضا فهو عليه الصلاة السلام لا يأتي إلا بالأكمل وهو أفضل من تركه إجماعا والنقل الضروري حاصل بأنه لم يواظب على ترك الأفضل طول عمره فثبت أنه أتى في نحو الوضوو والصلاة بالنية مع النطق ولم يثبت أنه تركه والشك لا يعارض اليقين ه وقد علمت أن الأفضل المكمل عدم النطق بالنية مع أن دعوى الإجماع غير صحيحة فإن المالكية قالوا بكراهته والحنبلية نصوا على أنه بدعة غير مستحب وإن أراد به الاتفاق بين الشافعية والحنفية فليس على الإطلاق بل محله إن احتاج إليه بالاستعانة عليه وقد ثبت تركه عند الحفاظ المحدثين لا ريب فقوله والشك لا يعارض اليقين مجازفة عظيمة من أعجب العجائب الذي يتحير فيه أولو الألباب حيث جعل الوهم يقينا وثبوت الحفاظ ريبا لا يقال المثبت مقدم على الناقي لأنا نقول محله إذا تعارض دليلان أحدهما على النفي والآخر على الإثبات والخصم هنا سواء جعلناه مثبتا أو نافيا ليس معه دليل ودليلنا على النفي ثابت بنقل المحدثين المؤيد بالأصل الذي هو عدم الوقوع فتأمل فإنه موضع زلل ومحل خطل ثم رأيت ابن القيم ذكر في زاد المعاد في هدى خير العباد وهذا لفظه كان عليه الصلاة والسلام إذا قام إلى الصلاة قال الله أكبر ولم يقل شيئا قبلها ولا تلفظ بالنية ولا قال أصلي لله صلاة كذا مستقبل القبلة أربع ركعات إماما أو مأموما ولا قال أداء ولا قضاء ولا فرض الوقت وهذه عشر بدع لم ينقل عنه عليه الصلاة والسلام أحد قط بإسناد صحيح ولا ضعيف ولا مسند ولا مرسل
لفظه واحدة منها ألبته بل ولا عن أحد من الصحابة ولا استحبه أحد من التابعين ولا الأئمة الأربعة وإنما غر بعض المتأخرين قول الشافعي في الصلاة إنها ليست كالصيام لا يدخل فيها أحد إلا بذكر فظن أن الذكر تلفظ المصلي بالنية وأن مراد الشافعي بالذكر تكبيرة الإحرام ليس إلا وكيف يستحب الشافعي أمرا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة واحدة ولا أحد من خلفائه وأصحابه وهذا هديهم وسيرتهم فإن أوجدنا أحد حرفا واحدا عنهم في ذلك قبلناه وقابلناه بالقبول والتسليم ولا هدي أكمل من هديهم ولا سنة إلا ما تلقوه عن صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم ه وصرح السيد جمال الدين المحديث بنفي رواية التلفظ بالنية عن المحدثين وكذا ذكره الفلايروزآباري صاحب القاموس في كتابه المسمى بالصراط المستقيم وقال القسطلاني في المواهب وبالجملة فلم ينقل أحد أنه عليه الصلاة والسلام تلفظ بالنية ولا علم أحدا من أصحابه التلفظ بها ولا أقره على ذلك بل المنقول عنه في السنن أنه قال مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم نعم اختلف العلماء في التلفظ بها فقال قائلون هو بدعة لأنه لم ينقل فعله وقال آخرون هو مستحب لأنه عون على استحضار النية القلبية وعبادة للسان كما أنها عبودية للقلب والأفعال المنوية عبادة الجوارح وبنحو ذلك أجاب الشيخ تقي الدين السبكي والحافظ عماد الدين ابن كثير وأطنب ابن القيم في الهدى في رد الاستحباب وأكثر من الاستدلال بما في ذكره طول يخرجنا عن المقصود لا سيما والذي استقر عليه أصحابنا استحاب النطق بها وقاسه بعضهم على ما في الصحيحين من حجيث أن سمع النبي صلى الله عليه وسلم يلبي بالحج والعمرة ن جميعا يقول لبيك عمرة وحجة وهاذ تصريح باللفظ والحكم كما يثبت بالنص يثبت بالقياس لكنه تعقب هذا بأنه عليه الصلاة والسلام قال ذلك في ابتداء إحرامه تعليما للصحابة ما يهلون به ويقصدونه من النسك ولقد صلى عليه الصلاة والسلام ثلاثين ألف صلاة فلم ينقل عنه أنه قال نويت أصلي صلاة كذا وكذا وتركه سنة كما أن فغله سنة فليس لنا أن نسوي بين ما فعله وتركه فتأتي من القول في الموضع الذي تركه بنظير ما أتى به في الموضع الذي فعله والفرق بين الحج والصلاة أظهر من أن يقاس أحدهما بالآخر ثم اللام في الينات عوض عن المضاف إليه أي إنما الأعمال بنياتها أو الحديث من باب مقابلة الجمع بالجمع على حد ركب القوم دوابهم قال ابن الهمام هذا حديث مشهور متفق على صحته وأما ألفاظه فإنما الأعمال بالنيات وبالنية والأعمال بالنية والعمل بالنية كلها في الصحيح وأما الأعمال بالنيات كما في الكتاب يعني الهداية فقال النووي في كتابه بستان العارفين ولم يكمل نقلا عن الحافظ أبي موسى الأصفهاني إنه لا يصح إسناده وأقره ونظر بعضهم فيه إذا قد رواه كذلك ابن حبان في صحيحة والحاكم في أربعينه ثم حكم بصحته قلت وهو رواية عن إمام المذهب في مسند أبي حنيفة رحمه الله رواه عن يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم التيمي عن علقمة عن أبي
وقاص الليثي عن عمر بن الخطاب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الأعمال بالنيات الحديث ورواه ابن الجارود في المنتقى إن الأعمال بالنيات وإن لكل امرئ ما نوى ه رووي عن الشافعي في فضل هذا الحديث أنه يدخل فيه نصف العلم ووجهه أن النية عبودية القلب والعمل عبودية القالب أو أن الدين إما ظاهر وهو العمل أو باطن وهو النية فهو كقوله عليه الصلاة والسلام تعلموا الفرائض فإنها نصف العلم لتعلقها بالموت المقابل للحياة وروي عنه ما يدل على أنه ربع العلم كما قال عمدة الخير عندنا كلمات أربع قالهن خير البرية اتق الشبهات وازهد ودع ما ليس بعينك واعمل بنيه إشارة إلى الأحاديث الأربعة فكأنه اعتبر اتقاء السيئات والزهد في المباحات وترك الفضولات والعمل بالنيات في جميع الحالات وروي عنه وعن أحمد أنه ثلث الإسلام أو ثلث العلم ووجه البيهقي بأن كسب العبد إما بقلبه كالنية أو بلسانه أو ببقية جوراحه والأول أحد الثلاثة بل أرجحها لأنه عبادة بانفرادها وهذا وجه خبر نية المؤمن خير من عمله وفي رواية أبلغ وفي أخرى زيادة إن الله عز وجل ليعطي العبد على نيته ما لا يعطيه على عمله وذلك أن النية لا رياء فيها والعمل يخالطه الرياء وله طرق ضعيفة يتقوى بمجموعها ولا يعارضه حديث من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له واحدة ومن عملها كتبت له عشرة الموهم أن العمل خير منها لأن كتابة العشر ليست على العمل وحده بل معها لأنها شرط لصحته وهو ليس شرطا لصحتها ولهذا يثاب على النية المجردة فانقلب هذا الحديث دليلا على خيريتها وظهر فساد ما قيل المراد أن النية خبر من العمل بلا نية لا معها لئلا يلزم أن الشيء خير من نفسه مع غيره والعجب من ابن حجر حيث ذكر هذا القيل وقرره بالتعليل وأما قوله ومن خيريتها على العمل أنها تقتضي التخليد في الجنة أو النار إذ المؤمن ناو الإيمان دائما والكافر ناو الكفر دائما فقوبل التأبيد بالتأبيد ولو نظر للعمل لكان الثواب أو العقاب بقدر مدته فمدخلو ومعلول فإنه لا يقال نية الكافر خير من عمله بل مفهوم الحديث أن عمل الكافر خير من نيته نعم ذكروا في جانب الجنة أن دخولها بالإيمان ودرجاتها بالأعمال وخلودها بالنية أو من باب الإفضال فلا إشكال وأما دخول الكفار في النار فلكفرهم ودركاتها على قدر أعماله السيئة فكان مقتضى العقل في ظاهر العدل أن الكافر الذي عاش في الدنيا مائة سنة مثلا أن يعذرب قدرها فقالوا التخليد في مقابلة نيته من التأبيد فإنه لو فرض أنه عاش أبدا الآباد لاستمر على كفره المعتاد ثم قيل ضمير عمله الكافر معهود
وهو السابق كبناء قنطرة عزم مسلم على بنائها والقول بأن خير ليست بمعنى أفعل التفضيل والمعنى النية خير من جملة الخيرات ساقط عن الاعتبار من جميع الجهات قال ابن حجر واختلفوا في نية السيئة والحق أنه لا عقاب عليها إلا إن انضم إليها عزم أو تصميم أي عزم على الفعل بالفعل أو تصميم على أنه سيفعل وفيه ان النية لا تكون إلا مع العزيمة وإلا فمع التردد تسمى خطرة وهي مرفوعة بالإجماع قال في المدارك عند قوله تعالى وإن تخفوا ما في صدوركم آل عمران الآية ولا تدخل الوساوس وحديث النفس فيما بخفيه الإنسان لأن ذلك مما ليس في وسعه الخلو عنه و لا يكلف الله نفسا إلا وسعها البقرة ولكن ما اعتقده وعزم عليه والحاصل أن عزم الكفر كفر وخطرة الذنوب من غير عزم معفو عنها وعزم الذنب إذا ندم عليه ورجع عنه معفو عنه بل يثاب فأما إذا هم بسيئة وهو ثابت على ذلك إلا أنه منع عنه بمانع لا باختيار فإنه لا يعاقب على ذلك عقوبة فعله أي بالعزم على الزنا لا يعاقب عقوبة الزنا وهل يعاقب عقوبة عزم الزنا قيل لا لقوله عليه الصلاة والسلام إن الله عفا عن أمتي ما حدثت به أنفسهم ما لم تعمل أو تتكلم به والجمهور على أن الحديث في الخطرة دون العزم وأن المؤاخذة في العزم ثابتة وإليه مال الشيخ أبو منصور وشمس الأئمة الحلواني والدليل عليه قوله تعالى إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة النور الآية ثم قال ابن حجر فإن قلت ونية الحسنة كذلك قلت فرق بأن ناوي الحسنة يثاب عليها وعلى نيتها وناوي السيئة إنما يعاقب على نيتها فقط قلت لا حاجة إلى الفرق فإن لكل امرئ ما نوى ثم ما ذكره من الفرق غير صحيح لأنه إن أراد التعدد الحقيقي فهو غير ثابت وإن أراد التعدد الحكمي وهو الزيادة في الكيفية دون الكمية كما أشار إليه بقوله ومعنى ثوابه على الأولين أنه يكتب له حسنة عظيمة لكن باعتبارين فهذا جار في السيئة أيضا ومن جملة الفروع المتعلقة بهذا الحديث أن من سبق لسانه بمكفر يدين خلافا لبعض المالكية إذ لا نية له ويؤيدنا خير مسلم في الذي ضلت راحلته ثم وجدها فقال من شدة الفرح اللهم أنت عبدي وأنا وربك قال عليه الصلاة والسلام أخطأ من شدة الفرح قال ابن حجر فإن قلت ظاهر كلام بعضهم قبول دعواه سبق اللسان هنا ولو من غير قرينة فينا فيه ما مر في نحو الطلاق أنه لا بد من قرينة فما فرق قلت أما بالنسبة إلى الباطن فهما
على حد سواء فلا شيء عليه باطنا فيهما حيث سبق لسانه وأما ظاهرا فلا بد من قرينة في الطلاق وكذا الكفر كما هو ظاهر ويحتمل قبوله فيه ظاهرا مطلقا أو يفرق بانه يغتفر في حق الله ما لا يغتفر في حق غيره لبناء حقه تعالى على المسامحة وحق الآدمي على المشاحة ومنها أن من وطئ أو شرب أو قتل بظن الحليلة ونحو الماء وغير المعصوم فبان محرما لا يأثم وفي عكسه يأثم اعتبارا بالنية فيهما وقال بعض العلماء استثنى بعض الأعمال من هذا العموم كصريح الطلاق والعتاق لأن تعيين الشارع هذه الألفاظ لأجل هذه المعاني بمنزلة النية ولا يخفي أن هذا إنما هو بالنسبة إلى الصحة والجواز وأما بالنسبة إلى الثواب فلا بد من تصحيح النية والله أعلم إنما لامرئ أي الشخص وفي رواية وإنما لكل امرئ ما نوى أي جزاء الذي نواه من خير أو شر أو جزاء عمل نواة أو نيته دون ما لم ينوه أو نواه غيره له ففيه بيان لما تثمره النية من القبول والرد والثواب والعقاب وغير ذلك كإسقاط القضاء وعدمه إذ لا يلزم من صحة العمل قبوله ووجود ثوابه لقوله تعالى إنما يتقبل الله من المتقين المائدة ففهم من الجملة الأولى أن الأعمال لا تكون محسوبة إلا بالنية ومن هذه أنها إنما تكون مقبولة بالإخلاص وحاصل الفرق أن النية في الأول متعلقة بنفس العمل وفي الثاني متوجهة إلى ما لأجله العمل من الأمل وقيل هذه مؤكدة للأولى تنبيها على سر الإخلاص ونوقش بأن تنبيهها على ذلك يمنع إطلاق كونها مؤكدة وقيل المراد بالأعمال العبادات وبالثاني الأمور المباجات فإنها لا تفيد المثوبات إلا إذا نوى بها فاعلها القربات كالمأكل والمشارب والمناكح وسائر اللذات إذا نوى بها القوى على الطاعات لاستيفاء الشهوات وكالتطيب إذا قصد إقامة السنة ودفع الرائحة المؤذية عن عباد الله تعالى ففي الجملة كل عمل صدر عنه لداعي الحق فهو الحق وكذا المتروكات لا يترتب عليها المثوبات إلا بالنيات روي أن رجلا من بني إسرائيل مر بكثبان رمل في مجاعة فقال في نفسه لو كان هذا الرمل طعاما لقسمه بين الناس فأوحى الله إلى نبيهم قل إن الله قد صدقك وشكر حسن صنيعك وأعطاك ثواب ما لو كان طعاما فتصدقت به وقال الخطابي في أعلام الحديث واختاره النووي إن هذه إشارة إلى إيجاب تعيين المنوي فلا بد أن ينوي في الفائنة من كونها ظهرا أو عصرا ولولاه لدل إنما الأعمال على الصحة بلا تعيين أو أوهم ذلك ه وكذلك إذا عمل عملا ذا وجهين أو وجوه من القربات كالتصدق على القريب الذي يكون جازا له وفقيرا أو غير ذلك من الأوصاف التي يستحق بها الإحسان ولم ينو إلا وجها واحدا لم يحصل له ذلك بخلاف ما إذا نوى جميع الجهات فعلم سر تأخير هذه الجملة وأنهما متغايرتان قيل المفهوم منه أن نية الخاص في ضمن نية العام غير معتبرة كما قال به بعض وقال بعضههم إنها معتبرة ويدل عليه حديث
الخيل لثلاثة الخ والله أعلم وقيل النية في الحديث محمولة على معناها اللغوي ليحسن تطبيقه على ما بعده وتقسيمه بقوله فمن كانت هجرته إلى الله و إلى رسوله فإنه تفصيل ما أجمله واستنباط المقصود عما أصله وتحريره أن قوله إنما لامرئ ما نوى دل على أن الأعمال تحسب بحسب النية إن كانت خالصة لله فهي له تعالى وإن كانت للدنيا فهي لها وإن كان لنظر الخلق فهي لذلك فالتقدير إذا تقرب أن لكل إنسان منوبة من طاعة أو مباح أو غيرهما فمن كانت هجرته من الهجر وهو الترك الذي هو ضد الوصل والمراد هنا ترك الوطن الذي بدار الكفر إلى دار الإسلام كهجرة الصحابة لما اشتد بهم أذى أهل مكة منها إلى الحبشة وإلى المدينة قبل هجرته عليه الصلاة والسلام وبعدها ولما احتاجوا إلى تعلم العلوم من أوطانهم إلى المدينة وقد تطلق كما في أحاديث على هجرة ما نهى الله عنه وفي معناها هجر المسلم أخاه وهجر المرأة مضجع زوجها وعكسه ومنها الهجرة من ديار البدعة إلى بلاد السنة والهجرة لطلب العلم وترك الوطن لتحصيل الحج وفي معناه الاعتزال عن الناس وأما قوله عليه الصلاة والسلام لا هجرة بعد الفتح فمحمول على خصوص الهجرة من مكة إلى المدينة لأن عموم الانتقال من دار الكفر إلى دار الإيمان باق على حاله وكذا الهجرة من المعاصي ثابتة لقوله عليه الصلاة والسلام المهاجر من هجر ما نهى الله عنه والمراد المهاجر الكامل وهذا معنى حديث لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة قيل المراد منها ههنا إلى المدينة لذكر المرأة وحكاية أم قيس لكن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب والمعنى من قصد بهجرته وجه الله والتقرب إلى رضاه لا يخلطها بشيء من الأعراض الدنيوية فهو كتابة عن تخليص النية أو ذكر الله توطئة لذكر الرسول تخصيصا له بالله وتعظيما للهجرة إليه أو ذكر الله للتزيين والإيماء إلى أن الهجرة إليه عليه الصلاة والسلام كالهجرة إلى الله تعلى كقوله ومن يعطع الرسول فقد أطاع الله النساء ثم الثابت في النسخ المصححة إعادة الجار في الشرط والجزاء وهي تفيد الاستقلال في الحكم بمعنى أن كلا من الهجريتين تقوم مقام الأخرى في مرتبة القبول فهجرته إلى الله إلى رسوله لم يقل إليهما استلذاذا بتكرير اسمهما وإلى متعلقة بهجرته إن قدرت كانت تامة وبمحذوف هو خبرها إن كانت ناقصة أي منتسبة إليهما والمراد أصل الكون لا بالنظر إلى زمن مخصوص أو روضعه الأصلي من المضي أو هنا من الاستقبال لوقوعها في حيز الشرط لفظا أو معنى للإجماع على استواء الأزمنة في الأحكام الشرعية إلا لمانع
ثم من القواعد المقررة أنه لا بد من المغايرة بين الشرط والجزاء لحصول الفائدة فقيل التقدير فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله قصدا ونية فهجرته إلى الله ثمرة ومنفعة فهو تمييز للنسبة ويجوز حذفه للقرينة وقيل فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله في الدنيا فهجرته إلى الله ورسوله في العقبى وقيل الجملة الجزائية كناية عن قوله فهجرته مقبولة أو صحيحة فأقيم السبب مقام المسبب وقيل خبره مقدر من طرف الجزاء أي فهجرته إلى الله ورسوله مقبولة أي فهي كما نواها وقد وقع أجره على الله سواء مات في الطريق أو وصل إلى الفريق كقوله تعالى ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله النساء وقيل اتحاد الشرط والجزاء لقصد التعظيم ولإرادة التحقير فيما سيأتي فيكون التغاير معنى بدليل قرائن السياق بأن يراد بالأول ما وجد خارجا وبالثاني ما عهد ذهنا على حد أنت أنت أي الصديق الخالص وهم هم أي الذين لا يعرف قدرهم ومنه أنا أبو النجم و شعري شعري أي شعري الآن هو شعري الذي كان والكبر ما غير اللسان والحاصل أن يقال فهجرته عظيمة ونتيجتها جسيمة ومن كانت هجرته إلى دنيا بضم الدال ويكسر وهي فعلى من الدنو وهو القرب لدنوها إلى الزوال أو لقربها من الآخرة منا ولا تنون لأن ألفها مقصورة للتأنيث أو هي تأنيث أدنى وهي طافية في منع الصرف وتنوينها في لغية شاذ ولإجرائها مجرى الأسماء وخلعها عن الوصفية نكرت كرجعي ولو بقيت على وصفيتها لعرفت كالحسي واختلفوا في حقيقتها مع أنه لا حقيقة لها فقيل وهي اسم مجموع هذا العالم المتناهي ففي القاموس الدنيا نقيض الآخرة ولو قال ضدها لكان أولى إيماء إلى أنهما لا يجتمعان مع جواز إنهما يرتفعان وقيل هي ما على الأرض من الجو والهواء أو هي كل المخلوقات من الجواهر والأعراض الموجودة قبل الآخرة قال النووي وهذا هو الأظهر ويطلق على كل جزء منها مجازا وأريد ههنا شيء من الحظوظ النفسانية كمال أو جاه و قد تكون إشارة إلى العاجل والمرأة إيماء إلى الآجل وهو الآخرة لانضمام الروحانية إلى الجسمانية في كل منهما فيفيد حينئذ أن قصد ما سوى الله تعالى فيه انحطاط تام عمن لم يقصد غير وجهه تعالى وقليل ما هم وعند محققي القوم ما تعلق دركه بالحس فهو دنيا وما تعلق دركه بالعقل فهو أخرى وفي رواية ومن كانت هجرته لدنيا أي لأجل عرضها وغرضها فاللام للتعليل أو بمعنى إلى لتقابل المقابل يصيبها أي يحصلها لكن لسرعة مبادرة النفس إليها بالجبلة الأصلية شبه حصولها بإصابة السهم للغرض والأظهر أنه حال مقدرة أي يقصد إصابتها وفيه إيماء إلا أنه لو طلب الدنيا لأن يستعين بها على الأخرى فلا يذم مع أن تركها أولى لقول عيسى عليه الصلاة والسلام يا طالب الدنيا لتبر تركك الدنيا أبر أو امرأة يتزوجها خصت بالذكر تنبيها على سبب الحديث وإن كانت العبرة بعموم اللفظ كما رواه الطبراني بسند رجاله ثقات عن ابن مسعود كان فينا رجل خطب امرأة يقال لها أم قيس فأبت أن تتزوجه حتى يهاجر فتزوجها قال فكنا نسميه مهاجر أم قيس وفيه إشارة إلى أنه مع كونه قصد في ضمن الهجرة سنة عظيمة أبطل ثواب هجرته فكيف يكون غيره أو دلالة على أعظم فتن الدنيا لقوله تعالى زين للناس حب الشهوات من النساء آل عمران ولقوله صلى الله عليه وسلم ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء لكن المرأة إذا كان صالحة تكون خير متاعها ولقوله صلى الله عليه وسلم الدنيا كلها متاع وخير متاعها المرأة الصالحة فهجرته إلى ما هاجر إليه أي منصرفة إلى الغرض الذي هاجر إليه فلا ثواب له لقوله تعالى من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وماله في الآخرة من نصيب الشورى والمعنى فهجرته مردودة أو قبيحة قيل إنما ذم لأنه طلب الدنيا في صورة الهجرة فأظهر العبادة للعقبى ومقصوده الحقيقي ما كان إلا الدنيا فاستحق الذم لمشابهته أهل النفاق ولذا قال الحسن البصري لما رأى بهلوانا يلعب على الحبل هذا أحسن من أصحابنا فإنه يأكل الدنيا بالدنيا وأصحابنا يأكلون الدنيا بالدين وقال ابن عبد السلام متى اجتمع باعث الدنيا والآخرة فلا ثواب مطلقا للخبر الصحيح أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه غيري فأنا منه بريء هو للذي أشرك وقال الغزالي يعتبر الباعث فإن غلب باعث الآخرة أثيب أو باعث الدنيا أو استويا لم يثب قال ابن حجر يؤخذ من قول الشافعي وأصحابه من حج بنية التجارة كان ثوابه دون ثواب المتخلي عنها أن القصد المصاحب للعبادة إن كان محرما كالرياء أسقطها مطلقا وهو محمل الحديث المذكور كما يصرح به لفظه أو غير محرم أثيب بقدر قصده الآخرة أخذا بعموم قوله تعالى فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره الزلزلة ا ه وهو تفصيل حسن وتعليل مستحسن هذا بلسان العلماء أرباب العبارة وأما بلسان العرفاء أصحاب الإشارة فمعناه مجملا أن أعمال ظاهر القالب متعلق بما يقع في القلوب من أنوار الغيوب والنية جمع الهم في تنفيذ العمل للمعمول له وأن لا يسنح في السر ذكر غيره وللناس فيما يعشقون مذاهب ثم نية العوام في طلب الأغراض مع نسيان الفضل والأعراض ونية الجاهل التحصين عن سوء القضاء ونزول البلاء ونية أهل النفاق التزين عند الناس مع إضمار الشقاق ونية العلماء إقامة الطاعات ونية أهل التصوف ترك الاعتماد على ما يظهر منهم من العبادات ونية أهل الحقيقة ربوبية تولت عبودية وإنما لكل امرئ ما نوى من مطالب السعداء وهي الخلاص عن الدركات السفلى من الكفر والشرك والجهل والمعاصي والسمعة والرياء والأخلاق الذميمة وحجب الأوصاف والفوز بالدرجات العلى وهي المعرفة والتوحيد والعلم والطاعات والأخلاق المحمودة وجذبات الحق والفناء عن إنابته والبقاء بهويته أو من مقاصد الأشقياء وهي إجمالا ما يبعد عن الحق فمن كانت هجرته أي خروجه من مقامه الذي هو فيه سواء كان استعداده الذي جبل عليه أو منزلا من منازل النفس أو مقاما من مقامات القلب إلى الله لتحصيل مراضيه وتحسين الأخلاق والتوجه إلى توحيد الذات ورسوله باتباع أعماله واقتفاء أخلاقه والتوجه إلى طلب الاستقامة في توحيد الصفات فهجرته إلى الله ورسوله فتخرجه العناية الإلهية من ظلمات الحدوث والفناء إلى أنوار الشهود والبقاء وتجذبه من حضيض العبودية إلى ذروة العندية ويفنى في عالم اللاهوت ويبقى بالحي الذي لا يموت ورجع إليه الأنس ونزل محله القدس بدار القرار إلى جوار الملك الغفار وأشرقت عليه سبحات الوجه الكريم وحل بقلبه روح الرضا العميم ووجد فيها الروح المحمدي وأحبابا وعرف أن له مثوى ومآبا ومن كانت هجرته لدنيا أي لتحصيل شهوة الحرص على المال والجاه أو تحصيل لذة شهوة الفرج فيبقى مهجورا عن الحق في أوطان الغربة وديار الظلمة له نار الفرقة والقطيعة نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة وأنشد بعض المخلصين لبعض المخلطين يا غافل القلب عن ذكر المنيات عما قليل ستثوى بين أموات إن الحمام له وقت إلى أجل فاذكر مصائب أيام وساعات لا تطمئن إلى الدنيا وزينتها قد حان للموت يا ذا اللب أن يأتي وكن حريصا على الإخلاص في عمل فإنما العمل الزاكي بنيات وقد ورد في مسند أبي يعلى الموصلي مرفوعا إن الله تعالى يقول للحفظة يوم القيامة اكتبوا لعبدي كذا وكذا من الأجر فيقولون ربنا لم نحفظ ذلك عنه ولا هو في صحيفتنا فيقول إنه نواه ونقل الأستاذ أبو القاسم القشيري قدس الله سره العلي أن زبيدة رؤيت في المنام فقيل لها ما فعل الله بك فقالت غفر لي فقيل لها بكثرة عمارتك الآبار والبرك والمصانع في طرق مكة وإنفاقك فيها فقالت هيهات هيهات ذهب ذلك كله إلى أربابه وإنما نفعنا منه النيات فغفر لنا بها اللهم فأحسن نياتنا ولا تؤاخذنا بدنياتنا واختم بالخير منياتنا متفق عليه أي اتفق البخاري ومسلم على روايته ويعبر عن هذا القسم بالمتفق عليه أي بما اتفق عليه الشيخان لا بما اتفق عليه الأمة لكن اتفاقها عليه لازم ذلك لاتفاقها على تلقي ما اتفقا عليه بالقبول وكذلك أخرجه الأربعة بقية الستة وقيل لم يبق من أصحاب الكتب المعتمد عليها من لم يخرجه سوى مالك ففي الجملة حديث مشهور مجمع على صحته وما ذكره ابن ماكولا وغيره من التكلم فيه لا يلتفت إليه وما قيل إنه متواتر غير صحيح فإنه لم يروه من طريق صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا عمر ولم يروه عن عمر إلا علقمة ولم يروه عن علقمة إلا محمد بن إبراهيم التيمي ولم يروه عنه إلا يحيى بن سعيد الأنصاري ثم تواتر عنه بحيث رواه عنه أكثر من مائة إنسان أكثرهم أئمة وقال جماعة من الحفاظ إنه رواه عنه سبعمائة إنسان من أعيانهم مالك والثوري والأوزاعي وابن المبارك والليث بن سعد وحماد بن زيد وسعيد وابن عيينة وقد روي هذا الحديث عن عمر تسعة غير علقمة وعن علقمة اثنان غير التيمي وعن التيمي خمسة غير يحيى فالحديث مشهور بالنسبة إلى آخره غريب بالنسبة إلى أوله ثم اعلم أن جمعا من المحدثين وغيرهم ذهبوا إلى أن جميع ما وقع مسندا في الصحيحين أو أحدهما من الأحاديث يقطع بصحته لتلقي الأمة له بالقبول من حيث الصحة وكذا العمل ما لم يمنع منه نحو نسخ أو تخصيص وإجماع هذه الأمة معصوم عن الخطأ كما قال صلى الله عليه وسلم فقبولها للخبر الغير المتواتر يوجب العلم النظري وعبارة الأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني أهل الصنعة مجمعون على أن الأخبار التي اشتمل عليها الصحيحان مقطوع بصحة أصولها ومتونها ولا يحصل الخلاف فيها وإن حصل اختلاف فلذلك اختلاف في طرقها أو رواتها فمن خالف حكمه خبرا منهما وليس له تأويل سائغ نقضنا حكمة وقال إمام الحرمين أجمع علماء المسلمين على صحتهما وقد قال عطاء الإجماع أقوى من الإسناد فإذن أفاد العلم وقال الأكثرون والمحققون صحتهما ظنية لأن أخبارهما آحاد وهي لا تفيد إلا الظن وإن تلقتها الأئمة بالقبول لأنهم تلقوا بالقبول ما ظنت صحته من غيرهما ولأن تصحيح الأئمة للخبر المستجمع لشروط الصحة إنما هو باعتبار الظاهر ولأن فيهما نحو مائتي حديث مسند طعن في صحتها فلم تتلق الأمة كلها ما فيهما بالقبول لكن بعض القائلين بالأول استثنوا هذه قال شيخ الإسلام ابن حجر العسقلاني والتحقيق أن الخلاف لفظي لأن من أطلق عليهما العلم بالصحة جعله نظريا وهو الناشئ عن الاستدلال ومن أبى هذا الإطلاق خص لفظ العلم بالمتواتر وما عداه عنده ظني واختلفوا هل يمكن التصحيح والتحسين والتضعيف في الأعصار المتأخرة واختار ابن الصلاح أنه لا يمكن بل يقتصر على ما نص عليه الأئمة في تصانيفهم المعتمدة ورده النووي وتبعوه وأطالوا في بيان رده ومن ثم صحح جماعة من معاصريه كالقطان والضياء المقدسي ثم المنذري والدمياطي طبقة بعد طبقة قيل ولعله إنما اختار حسم المادة لئلا يتطفل على ذلك بعض الجهلة قلت ومن هذا القبيل اختلافهم هل يمكن لأحد الاجتهاد المطلق في الأزمنة المتأخرة فقيل يمكن وقيل لا والخلاف لفظي لأن الإمكان أمر عقلي ومنعه أمر عادي والله تعالى أعلم كتاب الإيمان الكتاب إما مأخوذ من الكتب بمعنى الجمع أو الكتابة والمعنى هذا مجموع أو مكتوب في الأحاديث الواردة في الإيمان وإنما عنون به مع ذكره الإسلام أيضا لأنهما بمعنى واحد في الشرع وعلى اعتبار المعنى اللغوي من الفرق يكون فيه إشارة إلى أنه الأصل وعليه مدار الفصل وقدمه لزيادة شرفه في الفضل ولكونه شرطا لصحة العبادات المتقدمة على المعاملات وهو التصديق الذي معه أمن وطمأنينة لغة وفي الشرع تصديق القلب بما جاء من عند الرب فكأن المؤمن يجعل به نفسه آمنة من العذاب في الدارين أو من التكذيب والمخالفة وهو إفعال من الأمن يقال أمنت وآمنت غيري ثم يقال أمنه إذا صدقه وقيل معنى أمنت صرت ذا أمن ثم نقل إلى التصديق ويعدى باللام نحو وما أنت بمؤمن لنا وقال فرعون يوسف قال ءامنتم له طه وقد يضمن معنى اعترف فيعدى بالباء نحو يؤمنون بالغيب البقرة واختلف العلماء فيه على أقوال أولها عليه الأكثرون والأشعري والمحققون أنه مجرد تصديق النبي عليه الصلاة والسلام فيما علم مجيئه به بالضرورة تفصيلا في الأمور التفصيلية وإجمالا في الإجمالية تصديقا جازما ولو لغير دليل حتى يدخل إيمان المقلد فهو صحيح على الأصح ..............قال المدون ياتي توابع الكناب وعهدنه علي المؤبف والمحقق